إن جوهر أزمة تضخم أسعار الغذاء فى مصر يتعلق فى المقام الأول بافتقاد المنطق الاقتصادى فى التخطيط الحكومى، وافتقار السياسة الاقتصادية للأدوات المناسبة لإدارة وتوجيه سلوك القطاعات الاقتصادية، لا سيما المتعلقة منها بقطاعى الزراعة والغذاء. لذا لابد من مناقشة الموضوع من خلال إلقاء الضوء على الأزمة التى شهدتها سوق الأسماك بدايةً من الارتفاعات القياسية للأسعار خلال الأشهر القليلة الماضية، مرورا بحالة السعار التصديرى والتوجيه العشوائى للإنتاج المحلى نحو الأسواق الخارجية، وانتهاءً بقرار وقف التصدير وما أعقبه من حالة عدم الاستقرار فى الأسواق.
لقد كانت أولى ملاحظاتى هى كيف أن توالى المشكلات الاقتصادية وتكالبها علينا فى السنوات الأخيرة قد حد من رؤيتنا لجذور الأزمات وأبعادها الحقيقية، فصرنا ننظر لها من زوايا ضيقة، فنتعامل ــ على سبيل المثال ــ مع أزمة كأزمة الأسماك الحالية على أنها مجرد ارتفاع فى أسعار سلعة غذائية فى السوق المحلية، لتستحيل أقصى أمانينا أن نتعايش مع هذه الأزمات من خلال مسكنات لا تشفى عليلا ولا تحل قضيةً. فالإشكالية الأساسية حين يتعلق الأمر بالإنتاج السمكى فى مصر تنبع تحديدا من منطقية وجود أزمة من الأساس فى بلد تمتلك مساحات شاسعة من المسطحات المائية تتجاوز 13 مليون فدان، والتى تتنوع بين بحر أبيض، وبحر أحمر، وبحيرات طبيعية، وبحيرات صناعية، ونيل عظيم، ومزارع سمكية منتشرة فى جميع أرجائها. إن وجود أزمة فى بلد يتمتع بكل هذه المقومات لا شك يبرهن أن جذور أزمات قطاع الثروة السمكية والاستزراع السمكى هى فى الأصل مشكلات هيكلية ترتبط بخلل السياسات والأطر المؤسسية وعجز البنيان التنظيمى للقطاع عن الاستفادة بموارده المتاحة وتنميتها وتعظيم الاستفادة منها.
***
لقد كان من اللافت للانتباه أيضا تلك الحالة من الاستنكار الذى تعاملت بها الحكومة مع الأزمة فى مهدها، ويكأن لا سبب يدعو لارتفاع أسعار الأسماك، ثم تبرير المشكلة بأسباب واهية كالممارسات السوقية غير المنضبطة للمتعاملين فى سوق الأسماك. فارتفاع أسعار الأسماك يعد نتيجةً منطقيةً للسياسات الاقتصادية والنقدية للحكومة خلال الفترة الماضية، لا سيما ما يتعلق منها بتعويم العملة المحلية. فلقد عصف تحرير الحكومة لسعر الصرف بالأخضر واليابس من قطاعات الاقتصاد المصرى، وترك أسعار السلع والخدمات فى مهب رياح الدولار لتخلخل موازين كثير من السلع فى السوق المحلية فى ظل فقدان الجنيه لأكثر من نصف قيمته، إلى جانب الصعوبات التى واجهها مستوردو مدخلات الإنتاج الزراعى فى تدبير النقد الأجنبى بصرف النظر عن سعره. وبالتزامن مع ذلك، خفضت الحكومة دعم المواد البترولية ورفعت أسعار الكهرباء وغيرها من الخدمات، ليترتب على هذه العوامل مجتمعةً اتساع الفجوة الاستهلاكية للكثير من السلع الغذائية ونجد أنفسنا أمام تضخم مستمر فى الأسعار.
ولقد أصاب الأسماك ما أصاب غيرها من السلع الغذائية فى الأسواق المحلية، فأغلب مدخلات إنتاج المزارع السمكية، والتى تساهم بحوالى 80% تقريبا فى جملة الإنتاج المحلى السنوى من الأسماك، يتم استيرادها من الخارج. فعلى سبيل المثال، تضاعف سعر طن العلف خلال الفترة الماضية مقارنةً بأسعار ما قبل التعويم ليصل إلى حوالى 7 آلاف جنيه، كما ارتفعت أسعار النقل والإيجارات وأجور العمالة وغيرها. وأمام هذه المعطيات، كان من المنطقى أن يجد المتعاملون فى سوق الأسماك ــ صالحهم قبل طالحهم ــ أنفسهم مضطرين لرفع أسعار الأسماك فى ظل انخفاض هوامشهم الربحية كتجار، وتراجع دخولهم الحقيقة كمستهلكين أصابتهم نيران تضخم أسعار السلع الأخرى.
أما تبرير الحكومة للأزمة بأنه نتيجة للتصدير العشوائى للأسماك والذى تسبب فى نقص المعروض السوقى من الأصناف الشعبية وتسبب فى ارتفاع الأسعار، فلا يلام عليه التجار والمصدرون؛ بل يلقى اللوم والمسئولية على الحكومة ويثير الكثير من علامات الاستفهام حول العشوائية التى تدار بها السياسة الاقتصادية وحالة التضارب بين أهداف السياسات القطاعية. فلقد كانت ولا تزال الحكومة تزعم أن الإصلاحات الاقتصادية والنقدية التى أجرتها وتسببت فى خفض قيمة العملة ستحفز الصادرات وتدعم تنافسيتها فى الأسواق العالمية، وها قد حدث ذلك، فلم تنزعج الحكومة وتنتقد هدفا سعت له؟ إن من أدبيات علم الاقتصاد ما قد أصلت للأثر الإيجابى لخفض سعر الصرف على تنافسية الصادرات، غير أن إسقاط هذه القاعدة النظرية على الحالة المصرية الحالية يبطلها، بل ويجعل إثمها أكبر من نفعها لأسباب سبق مناقشتها. ولذلك، فكنتيجة لانخفاض قيمة العملة ومشكلات السوق المحلية، وجد تجار الأسماك فرصا تصديرية سانحة، لا سيما فى ظل انخفاض القوة الشرائية للكثير من القطاعات المستهلكة للأصناف الشعبية من الأسماك المحلية، فأصاب السوق حالة من «السعار التصديرى» غير المدروس فى ظل سبات حكومى عميق.
ووفق أصول النظرية الاقتصادية، لا يعد سلوك التجار واندفاعهم نحو التصدير أمرا منكرا ولا سلوكا مستنكرا، بل هى الفطرة الاقتصادية التى تجعل «تعظيم الأرباح» هدف الوحدات الاقتصادية الأهم ومسعاها الدءوب. وبصرف النظر عن هذا كله، فإن تحميل مصدِّرى الأسماك كل اللوم فى هذه الأزمة يوضح الحالة البائسة التى وصلنا إليها فى تقييم الأمور لا أقول اقتصاديا وإنما منطقيا. فحتى العام الماضى، لم تتجاوز صادراتنا السمكية حدود 3% من جملة الإنتاج السنوى، وحتى لو أخذنا فى الاعتبار أن جملة صادرات الأسماك خلال الربع الأول للعام الجارى قد ارتفعت لحوالى ١٢٠ ألف طن، أى حوالى 7٪ تقريبا من جملة الاستهلاك الكلى المقدرة بنحو مليون و٩٠٠ ألف طن سنويا، وفقا لبيانات البنك الدولى.
ولا أدرى أى منطق يفكر به البعض ليجعله يعزو ارتفاع أسعار الأسماك، والذى تجاوز فى بعض الأصناف الضعف، إلى هذه النسبة الزهيدة الهامشية للتصدير ويرى لها تأثيرا بهذا القدر المعنوى على أسعار الأسماك فى السوق المحلية. وحتى لو لم يتم اتخاذ قرار منع التصدير، فإن أغلب الظن أن هذه «الطفرة» التصديرية كانت ستخبو تلقائيا وتنطفئ ذاتيا. فما شهدناه ليس بنهج مصدرين يسعون وفق رؤية واضحة لاختراق الأسواق الدولية وبناء علاقات تصديرية طويلة المدى يراعى فيها التركيز على مواصفات الجودة واشتراطات سلامة الأسماك المصدرة وخلافه؛ وإنما لا يعدو كونه عملية «استغلال» فرص آنية مؤقتة، بعدها تدرك الأسواق المستوردة انخفاض جودة المنتجات وتتأنى قبل الاستيراد من مصر. وهذا ما اتضح سريعا حين أوصدت بعض الأسواق ــ كالمملكة العربية السعودية ــ أبوابها أمام شحنات الأسماك المصرية بسبب انخفاض جودتها وعدم مطابقتها للمواصفات القياسية. إن التصدير «المستدام» ليس بالأمر الذى يمكن إدراكه بين عشيةٍ أو ضحاها، وإنما يستلزم رؤيةً اقتصاديةً واضحةً واستراتيجيةً متكاملةً للتجارة الخارجية تشمل سلسلةً من التخطيط والإدارة الرشيدة للعمليات الإنتاجية والتسويقية، وهذه أمورٌ نحن أبعد ما نكون عنها على الأقل فى الوقت الراهن.
***
أخيرا، إن التعامل مع الأزمة الحالية التى يعيشها قطاع الثروة السمكية والاستزراع السمكى يحتاج لمبادرة جادة تستند إلى خطةٍ اقتصاديةٍ ورؤيةٍ فنيةٍ للخبراء والمتخصصين لدراسة المشكلات الهيكلية التى يعانى منها القطاع. كذلك، فالأهميته الاقتصادية والاجتماعية لهذا القطاع، والتى يستمدها من مساهمته بحوالى 20% من قيمة الإنتاج الحيوانى، وفرص العمل التى يوفرها بشكل مباشر وغير مباشر فى مجالات الصيد والاستزراع والإنتاج والتوزيع والتصنيع، تجعل من التنسيق الدقيق والتخطيط التكاملى بين أعضاء الجسد الحكومى ضرورة حتمية قبل تنفيذ أية تدخلات إصلاحية. فإن أخشى ما أخشاه أن نهدم بأيدينا ما بنيناه فى مجال الاستزراع السمكى خلال العقدين الأخيرين وجعل مصر تحتل المركز العاشر عالميا والأول أفريقيا، ونموذجا يحتذى به، ورفع نصيب الفرد من الأسماك ليتجاوز المتوسط العالمى، ليصبح هذا القطاع بذلك خيارا مثاليا لسد الطلب المتزايد على الأسماك، وبديلا مناسبا لتقليل الفجوة بين إنتاج واستهلاك البروتين الحيوانى.