أنجز المؤرخ والمحلل السياسى البريطانى باتريك سيل سيرة عن حياة الزعيم السياسى اللبنانى رياض الصلح بعنوان «رياض الصلح.. النضال من أجل الاستقلال العربى».
كتاب ضخم يدخل القارئ فى جو المرحلة التاريخية الحاسمة التى شهدت تقسيم ثم استقلال لبنان وسوريا والأردن وضياع فلسطين مع قيام الدولة الصهيونية وهزيمة العرب. من خلال هذا المؤلف، يعيش القارئ مع بطل الرواية الرئيسى ومجموعة من الشخصيات التاريخية ويتفاعل معهم ومع الأحداث. وضع باتريك سيل سيرة حية ومثيرة، تقرأ كالرواية وهى غنية بالأحداث والمعلومات ولا تخلو من تفاصيل رومانسية عن الحياة العائلية والزوجية للزعيم السياسى الكبير توحى بأن الكاتب يتمتع بصلة وثيقة بعائلة الصلح.
تكمن أهمية الكتاب فى استناده الى كم هائل من الوثائق التاريخية المأخوذة من الأرشيف البريطانى والفرنسى والعثمانى هذا بالاضافة إلى مئات من المراجع التى تسمى بالثانوية أى الكتب التى تغطى هذه الحقبة التاريخية بالفرنسية والانجليزية وكل ما توافر له من شهادات ومذكرات لشخصيات سياسية بالعربية.
أما عن الأوراق الخاصة لرياض الصلح فلا يوجد أى استناد لها مما يشير إلى أن سيل لم يحصل على أوراق ذات أهمية مما يزيد من كفاءته فى إنجاز كتاب كهذا السبب الآخر الذى يجعل من هذا الكتاب عملا استثنائيا هو قدرة سيل على استخدام المصادر الأوروبية دون تبنى رؤى القوى المستعمرة، بل تركيز جهده فى تقديم رؤية عربية، بل وعروبية، كما لو كان كتبها أحد القوميين العرب.
فهو لا يرحم لا بريطانيا ولا فرنسا فى وصفه لطموحاتهما ومؤامراتهما وأساليبهما الشرسة أحيانا ومقاومتهما لكل زعيم يتمتع بشعبية ما وقادر على تحريك مشاعر الجماهير. ويظهر سيل أيضا غباء وقصر نظر وتناقضات القوتين فى تعاملها مع الأوضاع على الأرض ومع الزعماء العرب الكبار حتى إن دبلوماسيين فرنسيين حاليين أبدوا انزعاجهم من عرض سيل صورة بهذه القسوة عن فرنسا.
لا شك أن سيل تأثر بموضوعه ولا يخفى إعجابه بشخصية بطل الكتاب ولكنه يفعل ذلك بذكاء ومهنية ولم يمتنع عن رواية القضايا المثيرة للجدل بالتفصيل، وأبرز الأسباب والاعتبارات التى قادت رياض الصلح إلى تبنى مواقف وسياسات معينة. يستعين باتريك سيل هنا بمهارته كمحلل سياسى ويضع القارئ أمام الوقائع المعقدة كما واجهها الصلح فيقول إن ليس هناك حياة سياسية لأى شخصية بهذه الأهمية دون ضلوعها فى قضايا حساسة تطلبت قرارات صعبة ومساومات وتعاونا مع جهات عديدة من مستعمر وعدو أو جار يهدد أو يبتز أو يتآمر.
ما نخرج به فى نهاية المطاف هو أن رياض الصلح كان رجل دولة يحترم القواعد الديمقراطية ويعى أهمية العلاقات السليمة بين الطوائف ولذلك يولى جهودا كبيرة للتواصل مع جميع الطوائف والأقليات وإقامة علاقات ودية معهم. وهو يتحلى ببعد نظر استثنائى وبرجماتية متميزة وقدرة على التعامل مع وقائع مريرة محاولا الحد من تأثيراتها السلبية. فمثلا، بينما كان رياض الصلح فى طليعة الحركة القومية العربية ينادى بالوحدة مع سوريا تحول موقفه من النضال من أجل المشروع القومى العربى إلى الدفاع عن بناء الكيان الوطنى اللبنانى.
يفسر سيل تغير الموقف هذا بقلق رياض الصلح من ردة فعل المسيحيين فى لبنان وتخوفاتهم وتوجههم نحو فرنسا لطلب حمايتها لأنه كان حريصا على طمأنة الطوائف المسيحية بشتى مذاهبها بأنها لن تغرق فى محيط إسلامى وذلك من أجل إقناعها بضرورة استقلال لبنان ودفع القوات الأجنبية إلى الجلاء عن أراضيه.
كان رياض الصلح قد اتهم بأنه كان وراء إعدام زعيم الحزب القومى السورى أنطون سعادة، وأن هو الذى أقنع العقيد السورى حسنى الزعيم صاحب الانقلاب الأول فى سوريا بعد الاستقلال بتسليم سعادة إلى الحكومة اللبنانية وترتيب محاكمة شكلية له ثم إعدامه على الفور.
لا ينفى سيل هذه الرواية ولكنه يعرض مجموعة من المبررات مثل قوله إن الأجواء العربية كانت فى ذلك الوقت تعم بإشاعات عن انقلابات والتحضير لثورات فى عدة دول لم يكن من المستغرب أن يقرر الرئيس بشارة الخورى ورئيس الوزراء رياض الصلح ان يتخلصوا بسرعة من أنطون سعادة الذى يصفه باتريك سيل بأنه كان شخصية سلطوية ذا ميول فاشية وقائد ميليشيا ومدبر المؤامرات. وفى عدة مقاطع من الكتاب، يروى سيل موقف رياض الصلح من المشروع الصهيونى فيصف مقابلته الزعماء الصهاينة ومفاوضتهم وإبداءه مرونة وانفتاح استثنائى حيث عبر عن استعداد العرب للسماح لليهود بالهجرة إلى فلسطين وحتى بإنشاء كيان وطنى يهودى فيها إذا كان ذلك سيجنب المنطقة حربا مأساوية وشريطة ألا يتضرر السكان العرب.
أثار هذا ردود فعل من خلال مقالات فى الصحافة اللبنانية بشكل خاص، وفى إحداها، شن الكاتب بدر الحاج هجوما عنيفا على باتريك سيل متهما إياه بالتزوير المبرمج للأحداث، وبالعمل على تطهير سمعة وتبييض صورة رياض الصلح من خلال كتابه «التاريخ كما يشتهيه أهل الفقيد» وهو عنوان هذا المقال الغاضب الذى نشرته يومية الأخبار البيروتية. حدة المراجعة النقدية للكتاب تكاد تثير الاستغراب لولا إدراكنا أن لبنان مازال يعيش تبعات هذه المرحلة التاريخية التى رسمت نظامه السياسى، بل كيان الدولة والمجتمع. وبأنه مازالت القوى السياسية فيه التى تأسست فى الثلاثينيات من القرن الماضى هى نفسها التى تستقطب الفصائل ضمن المجتمع اللبنانى وترسم تحالفات إقليمية تحرك بدورها الساحة الداخلية.
فبينما يمتدح باتريك سيل صفات رياض الصلح السياسية، ومنها تمسكه بالديمقراطية، يتهم الصحفى بدر الحاج رياض الصلح بأنه اخترع الطائفية عندما وضع النظام السياسى للبلاد مع الرئيس بشارة الخورى والمبنى على المحاصصة بين الطوائف. ويتهمه الحاج بأنه لم يكن يريد الوحدة مع سوريا بل عمل على منعها بشكل منهجى.
وفى الواقع، لا يوجد تبرير لهذه التهمة حيث لم يشكك يوما أى من زعماء الاستقلال السوريين فى انتماء وولاء الصلح للمشروع القومى العربى. فقد ظل على علاقة حميمة مع هؤلاء الزعماء ونسق معهم فى معظم مبادراته وقراراته واستمرت هذه العلاقات بين عائلة الصلح والعائلات التى ينتمى إليها كبار وجوه الاستقلال فى سوريا.
وكما تجرى العادة عند الكتابة لمهاجمة خصم سياسى فى العالم العربى، يتهم بدر الحاج كاتب المقال رياض الصلح بتورطه مع الصهيونية وتفريطه بأرض فلسطين بسبب «فهمه السطحى للحركة الصهيونية». سيل متهم هنا بالكذب وإخفاء الحقائق عمدا، إذ يستشهد كاتب المقال بكتابات أكاديميين غربيين لم يستخدمها أو تجاهلها سيل، والذين استندوا بدورهم إلى وثائق إسرائيلية من الأرشيف الرسمى لفضح واقعة أن رياض الصلح «كان مدفوعا ماليا من قبل ممولين صهاينة كبار وأنه كان فى مهمة اتصال سلمى مع قادة الحركة الصهيونية حين اغتيل فى عمان».
فى الواقع، لم يكن فى حوزة باتريك سيل الوسائل التى تسمح له بحسم بعض القضايا التى ستبقى محل تساؤل فى غياب أرشيف عربى رسمى أو توافر أوراق شخصية من جهات قادرة على أرشفتها وحفظها بأمانة ووضعها بمتناول الباحثين والمؤرخين العرب أو المتخصصين بتاريخ العالم العربى دون تدخل من جهات حكومية أو أمنية أو مالية نافذة.
فمعظم العائلات التى تستحوذ على أوراق شخصية، تتمسك بها بسبب غياب الثقة فى المؤسسات الرسمية المخولة بالأرشفة، ولكن أيضا بسبب خوفها من وجود «جثة فى الخزانة»، أى قضايا أثارت اتهامات من جهات مختلفة ربما تثبت الأوراق تورط هذه الشخصية فيها. من المرجح ألا تكون سيرة باتريك سيل هذه القول الفاصل عن رياض الصلح، وقد يكتب مؤرخون آخرون عنه وهذا محبذ. ولكن بسبب المخاوف التى وردت وفى غياب الوثائق العربية، نبقى كعرب غير قادرين على التخلص من الشكوك والاتهامات، وهذا يزيد من صعوبة عملية طى صفحات الماضى للمضى قدما فى مواجهة التحديات الحالية والمقبلة.
نبقى كعرب غير قادرين على التخلص من الشكوك والاتهامات، وهذا يزيد من صعوبة عملية طى صفحات الماضى للمضى قدما فى مواجهة التحديات الحالية والمقبلة.