ظلت التكنولوجيا تشكل التهديد الأساسى الذى يواجه العمال فى سوق العمل خلال الثورات الصناعية التى تتابعت على العالم. فالتكنولوجيا هى التى أدخلت التنميط على العملية الإنتاجية، فألغت ملايين الوظائف التنفيذية لأصحاب «الياقات الزرقاء» فى أنشطة الإنتاج والتوزيع؛ وهى التى ضيّقت الخناق على العمالة عندما حلت محل وظائف أصحاب «الياقات البيضاء» فى أنشطة الإشراف والإدارة. ولم يقف التهديد التكنولوجى للعمالة عند هذا الحد؛ فالعديد من الأنشطة الزراعية والصناعية والخدمية فى طريقها لإلغاء جميع ما بها من وظائف بشرية، ومتجه صوب الاعتماد الكامل على الإنسان الآلى وأتمتة جميع أنظمة التشغيل بها، إيذانا بقرب انتهاء عصر العامل البشرى.
وبالتأمل فى مسار الصراع المستعر بين التكنولوجيا والعامل البشرى، كيف لنا أن نعتبر من الانتصار الدائم للتكنولوجيا والنزيف المستمر فى فرص توظف العمال؟! وكيف يمكن للعامل أن يستعد ويتكيف مع مستقبل يضن عليه حتى بحلم الوظيفة؟! وفى حلبة هذا الصراع عالمى الطابع، هل المستقبل قاتم لعمالة الدول النامية مثلما هو كذلك بالنسبة لعمالة الدول المتقدمة؟!
***
على امتداد التاريخ الاقتصادى الحديث، ظهرت العديد من المشكلات الاجتماعية والاقتصادية بسبب إلغاء ملايين الوظائف كنتيجة للإحلال التدريجى للآلة محل العامل البشرى. فحول المشكلات الاجتماعية، يكفينا الإشارة إلى أن تزايد معدلات البطالة بين صفوف العمال ما هو إلا محصلة منطقية لهذا الإحلال؛ وأن البطالة هى التربة الخصبة لتفاقم أغلب الظواهر الاجتماعية السلبية التى تعانى منها المجتمعات الحديثة. وعن المشكلات الاقتصادية، فلننظر هنا بالأخص لمشكلة الركود المزمن؛ فإذا كان إحلال الآلات محل العامل البشرى مفيدا من منظور تحسن ونمو الإنتاجية الكلية المستهدفة من السياسات الاقتصادية، فإن نفس السياسات قد عانت كثيرا من تراجع نصيب الأجور فى الدخل القومى لصالح زيادة نصيب الآلات (ومالكيها بالتبعية) من هذا الدخل. ومن المعلوم أن الدورات الاقتصادية، وتقلب الأداء الاقتصادى بين نمو وازدهار وركود وكساد، مرهونة بمستويات الاستهلاك الخاص؛ والاستهلاك الخاص محكوم بمستويات الدخول لجمهرة الموظفين بالأساس؛ ومادامت فرص التوظف تقل باستمرار، وتحل الآلات محل الإنسان فى الأنشطة الإنتاجية، فمآل الأداء الاقتصادى دائما سيكون إلى الركود.
وحتى إذا كانت النظم الاقتصادية المختلفة قد حاولت التصدى لمعضلة الركود المصاحب للبطالة باستخدام سلاح إعادة توزيع الدخل، إما لصالح أصحاب الدخول الثابتة والمحدودة من الموظفين من ذوى الياقات الزرقاء والبيضاء، أو بمنح إعانات للبطالة للذين فقدوا وظائفهم أو حرمتهم «الأتمتة» من الحصول عليها؛ لكنها، ورغم فاعلية هذا السلاح فى التصدى لمعضلة الركود دون البطالة، لم تتمكن من تجاوزها بالكلية؛ وما انفكت تلك المعضلة عصية على الحل؛ ومازال الركود يمثل صفة هيكلية لصيقة بهذه النظم. ومع تسارع عمليات إحلال الآلة محل العامل البشرى فى العقود الأخيرة، لم تجد عمليات إعادة توزيع الدخول نفعا كثيرا مثلما كانت فى الماضى؛ فتعززت فرص حدوث الركود الدورى، وزادت تلك المعضلة رسوخا؛ ليصير النظام الاقتصادى مهددا، وفى المستقبل غير البعيد، فى الأسس الصلبة التى قام عليها. إن هذا ــ ببساطة ــ هو أحد الأوجه المظلمة للتكنولوجيا الحديثة!
نعم، لقد مكنتنا التكنولوجيا الحديثة من ابتكار طرائق جديدة للإنتاج عالى الكفاءة والفاعلية، وأنتجت سلعا وخدمات لم نعهدها من قبل، وفتحت آفاقا جديدة أمام العمال للتوظف المنتج، وخلقت وظائف جديدة لم تكن لتوجد بدونها. غير أن ذلك كله لا ينفى الحقيقة الأساسية التى نطرحها هنا؛ وهى أن الآلة على وشك أن تزيح العامل البشرى من طريقها ليقعد ملوما محسورا عن التوظف المنتج. فمن حيث الكم، وفى أغلب بلدان العالم، لم يواكب معدل النمو فى الوظائف المستحدثة النمو المقابل فى الأيدى العاملة التى تدخل سنويا لسوق العمل؛ ومعدلات البطالة السافرة آخذة فى الزيادة المضطردة. ومن حيث النوع، أفضى التقدم التكنولوجى للتزاحم الشديد على قلة قليلة من الوظائف التى اجتازت عقبة التكنولوجيا ومازالت حصرية على مهارات العامل البشرى.
ثم إن التوسع فى إحلال الآلة بديلا للعامل البشرى، وإن كان قد أفضى وحفز من الحراك الوظيفى فى المجتمعات المتقدمة والنامية على السواء، إلا أنه زاد من الأعباء الملقاة على عاتق الباحثين عن العمل، وخصوصا فى الدول النامية؛ وزاد كذلك من التشوهات فى أسواق العمل فى هذه الدول؛ ورفع، بالتبعية، من فاتورة الإنفاق الكلى على التعليم والتدريب وإعادة التأهيل المهنى. إننا نرى أن المهارات الحديثة التى يتعين على العمال اكتسابها عديدة ومكلفة؛ والمسافة تتسع بين احتياجات أسواق العمل وبين أنظمة التعليم القائمة فى معظم البلدان النامية؛ والسياسات المطلوبة لعلاج تشوهات سوق العمل متعارضة؛ والتوظف الحكومى يعانى من داء عضال، وطاقة هذه الاقتصادات على تحمل كل ذلك صارت محدودة وغير مرشحة للاستمرار.
***
إن أحدا لا يمكنه الوقوف أمام عجلة التاريخ، ولا بمقدوره منع ــ أو حتى إبطاء ــ الآلات من تدمير وإلغاء وظائف العمال. وأمام هذه الحتمية التاريخية، يبدو جليا أن مستقبل الوظائف سيكون مختلفا بالكلية عن حاضرها وماضيها. ولقد أسهبت دراسات عديدة فى محاولة استشراف صورة هذا المستقبل. وكان أن توقعت حدوث تراجع تاريخى فى عدد هذه الوظائف، وعددت الوظائف المتاحة أمام الأيدى العاملة التى ستظل صامدة أمام تفوق وتغوّل الآلات. ومن هذا الوظائف مثلا، تلك المعتمدة على مهارات الابتكار الذهنى والتخطيط الاقتصادى والتسويق والاستشارات القانونية والشخصية، أو تلك التى تنتج ــ فى أضيق الحدود ــ خدمات الإدارة العامة والخدمات الاجتماعية والشخصية. ومنها أيضا الوظائف التى تستهدف تحليل البيانات والمعلومات والبرمجة وتطوير التكنولوجيا والدعم الفنى للتقنية، أو تعمل فى ترشيد استخدام الطاقة الأحفورية وفى حقول الطاقة الجديدة والمتجددة. والملاحظة الواضحة من التأمل فى هذه النوعية من وظائف المستقبل بخلاف أنها تعد على أصابع اليد الواحدة، هى أنها تعتمد بالكامل على المجهود الذهنى للعامل، وأنها تتشابك وتتكامل مع ما تخلقه تكنولوجيا المستقبل من فرص وتحديات؛ أما الوظائف التى تحتاج لجهده العضلى، أو ترتبط بتكنولوجيا تقادمت فنيا، فإنها ستصبح ــ دون أدنى ريب ــ أثرا بعد عين.
على أننا نعتقد أن تطور الوظائف فى المستقبل القريب لن يقتصر على تطور نوعية الوظائف وتحيزها لصالح الوظائف الذهنية؛ بل نرى، وبوضوح شديد، أن التطور سيصيب عددا لا بأس به من أصول التوظف الراهن وخصائصه. فحسب درجة المهارة، لن تترك الآلات أى فرصة لبقاء الوظائف الذهنية محدودة المهارة. وأمام طوفان التحديث فى تكنولوجيا التواصل والاتصال، سيعاد نشر الوظائف جغرافيا داخل أقاليم الدولة، وستعالج ــ من تلقاء نفسها ــ قضايا التركز الحضرى للوظائف الذى تعانى منه العديد من بلدان العالم. فالاكتظاظ العمالى فى المدن الكبرى سيصبح من ذكريات الماضى؛ ما دامت فرص الاتصال بشبكات الإنترنت متاحة ومنتشرة جغرافيا. إن تقنيا يعمل فى مجال تحليل البيانات وآخر يعمل فى مجال أمن المعلومات وثالث يعمل فى مجال الدعم والاستشارات القانونية، ليسوا جميعا بحاجة أصلا للخروج من المنزل لبيع ما لديهم من ساعات عمل، ناهيك عن حاجتهم للانتقال لمدينة أخرى لتقديم هذه الخدمات. فماذا لو كان الانتقال لدولة أخرى؟!
لا نشك مطلقا فى أن مستقبل انتقالات العمالة وتوظيفها بالخارج سيصيبه تغير عميق. فإذ نعتقد أن خرائط التشغيل والتوظف العالمية ستتغير برمتها، نؤمن بشدة أن هذه الانتقالات ستدخل قريبا فى ذمة التاريخ. ولا غرو فى ذلك طالما سلمنا بقدرة العامل على بيع ساعات عمله عن بعد عبر منصات الإنترنت. فبينما تزداد قدرتها فى الحصول على خدماتهم بأبسط وأسرع الطرق التكنولوجية، ما الداعى لتحمل أى دولة مشقة استقدام العمالة على ما بها من مخاطر سياسية واجتماعية وأمنية؟! ففى الماضى القريب، وعلى سبيل المثال، كان المعلم مدعوا للانتقال للعمل بالخارج لتقديم الخدمات التعليمية. أمَا وأن العالم قد دُفع فى أثناء كتابة هذه السطور قسريا للتحول للتعليم عن بعد لأجل غير معروف؛ أوليس ذلك كافيا للاقتناع بأن الطلب على المعلمين سيتهاوى لأدنى مستوياته مستقبلا؟!
***
حقا، لقد فعل فيروس كورونا بالعالم الأفاعيل. وعلى ذكر هذه الجائحة العالمية، وإذا أعادت هذه الجائحة تذكيرنا بضرورة التفكر فى المستقبل القريب بجميع أبعاده، فإنها كذلك سلطت أضواء شديدة على قضايا التوظف فى مستقبل ملفوف بالغموض الطبى فضلا عن التكنولوجى. فكم من العمالة التى تعتقد أنها فقدت وظائفها بصورة مؤقتة خلال هذه الجائحة، لكننا مقتنعون أنها ــ وبكل أسف ــ ستفقدها بشكل نهائى فى عالم ما بعد كورونا. فجائحة كورونا لم تخلق الاتجاه العالمى لإلغاء ملايين الوظائف، لكنها فقط سرعت من وتيرته فى معظم الأنشطة الاقتصادية؛ ظاهرا بدعوى التباعد الاجتماعى للوقاية من الفيروسات، وباطنا لجموح وتغول الآلة أمام الإنسان!
وربما استطاعت الدول المتقدمة أن تدرأ عن عمالتها مخاطر كورونا المؤقتة ومخاطر تغول الآلات الدائمة؛ إما بما لديها من احتياطات مالية، أو بما يملكه جهازها الإنتاجى من مرونة وتطور. لكن الدول النامية، وعندما تنجح فى اجتياز جائحة كورونا، ستكون مطالبة بتغيير سياستها الاقتصادية لتستهدف عدة أمور مرتبطة بشدة بوظائف المستقبل. أولها هو تحديث جهازها الإنتاجى ليلبى متطلبات التنمية المستدامة، وليقدر على خلق فرص عمل تتكيف مع اتجاهات المستقبل القريب، وليستوعب القطاعات غير المنظمة التى تنتشر على حوافه وهامشه. وثانيها أن تتغير منظومة التعليم والتدريب القائمة لتواكب سوق عمل ستكون مختلفة بالكلية فى المستقبل القريب. وثالثها أن يعاد النظر فى سياسات تخطيط العمالة الحكومية، بأن تلائم الصورة التى ستكون عليها «حكومة المستقبل».
ومع أنه قد يخيل للقارئ أن استعداد الدول النامية لوظائف المستقبل سيقع عبئه بالكامل على عاتق السياسات الاقتصادية والاجتماعية؛ بيد أن دروس الماضى القريب وقيود الحاضر الكثيرة تثبت أن العمال أنفسهم شركاء فى تحمل هذا العبء المستقبلى. إذ بدون استعدادهم الكامل لترقية معارفهم ومهاراتهم وخبراتهم للتكيف مع اتجاهات التوظف المستقبلى واللحاق بركب التطور التكنولوجى المتسارع، وبدون مشاركتهم الفاعلة فى صياغة سياسات اقتصادية واجتماعية كفؤة ورشيدة، سينتهى بهم الحال ــ لا محالة ــ فى مستقبل شديد القتامة. أفلا يكفى ذلك لتذكيرهم بأن مستقبلهم الوظيفى القريب فيه ما يستحق أن يناضلوا من أجله؟!