القاهرة: مدينتى وثورتنا (٢٦) - أهداف سويف - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 1:14 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

القاهرة: مدينتى وثورتنا (٢٦)

نشر فى : الخميس 23 يوليه 2015 - 8:45 ص | آخر تحديث : الخميس 23 يوليه 2015 - 8:45 ص

الموجة الثانية

فى العيد تسمح السلطات لكل سجين بزيارة استثنائية. ففى عيد الأضحى هذا العام أصبحت أسرتنا واحدة من آلاف الأسر التى تقضى أول يوم العيد منتظرة خارج بوابات أحد السجون لتزور ابنا أو أبا.


وبمرور الأيام كبرت قائمة الاتهامات ضد علاء واستطالت. اتهموه بتدمير مدرعة وسرقة أسلحة منها، وأوجدوا شاهدة تقسم أنها رأته يقوم بهذا، واكتشفنا أنها على علاقة بلواء متقاعد كان يدير «الشئون المعنوية» بالجيش. وحين تساءلت ليلى ــ فى خطاب مفتوح فى الجرائد ــ لماذا لم يداهم الجيش بيت علاء إن كان يعتقد أن بحوزته ترسانة سلاح؟ لماذا انتظروا مرور أسبوعين بعد مذبحة ماسبيرو ليستدعوه؟ تقدم شاهد جديد ليقر أنه رأى علاء يلف الأسلحة فى ملاءة ويجرى بها إلى النيل فيقذف بها فيه.


مقال علاء، المعنون «التبس على الأمر»، والذى هربه من محبسه فنشر فى ١٦ نوفمبر ٢٠١١، استحث الجميع، من كل التيارات السياسية، أن ينزل إلى الشارع يوم ١٨ لننتزع السلطة التشريعية من أيدى المجلس العسكرى، ولنصر على بدء الانتخابات يوم ٢٨ ثم تسليم السلطة لبرلمان منتخب.


ليلى ومنال ومنى يذهبن إلى سجن طرة فى كل المواعيد المتاحة للزيارات. سناء تذهب كل يوم بالأكل والجرائد والغسيل. وأحمد سيف ــ لكى لا يستهلك المسموح به من الزيارات الأسرية ــ يزور ابنه كمحاميه.


ويوم ١٨ نوفمبر نشر مقال علاء، «الدولة الرهينة»، الذى ساند فيه الرأى القائل بأن الدستور الجديد يجب ألا يصاغ فى حكم وبإشراف المجلس العسكرى.


وكان المجلس العسكرى قد التف حوله مجموعة من السياسيين والقضاة وأساتذة الجامعات والخبراء فى مجالات شتى‪؛‬ الكل من أصحاب النفوذ، ومن المتقدمين فى العمر. لا نتهمهم بخيانة الثورة، بل هم رأوا فيها حدثا رائعا سمح بالتخلص من مبارك وأسرته، والآن، وقد تم هذا، فالبلاد عليها أن تعود إلى النظام والاستقرار. كانت رؤيتهم دائما تعطى الأولوية للدولة وليس للشعب، لم يكن بمقدورهم أن يروا «شعبا» يعمل متجاوزا الأطر المتعارف عليها للدولة ــ فرأوا الناس على أنها جمهرة لا عقل لها، تتجه بإصرار إلى الفوضى، وكان من الطبيعى لهم أن يلتفوا حول المجلس العسكرى، العمود الوحيد للدولة الذى بدا أنه لم يهتز. ربما حتى كانت ضمائرهم أو إحساسهم بالمسئولية هو الذى حركهم ليتعاونوا مع المجلس العسكرى فى محاربة الثورة.


منذ أغسطس وقيادات القوى السياسية كلها تعقد اجتماعا بعد اجتماع تحاول الوصول إلى توافق حول المبادئ العامة للدستور الجديد. اليسار والليبراليون والسلفية والإخوان. ونشط المجلس العسكرى أيضا فجاءت الوثيقة التى طرحها الدكتور على السلمى لتكون إسهام القوات المسلحة فى النقاش الدائر. واقترحت وثيقة السلمى أن المجلس العسكرى ــ وليس الشعب أو ممثلى الشعب ــ قد أصبح الآن «حامى الشرعية الثورية»، وأعطت الوثيقة المجلس العسكرى السلطة على الشق الأعظم من ميزانية الدولة كما أقرت بسلطته المنفردة على ميزانية القوات المسلحة وعلى أى تشريع يتلامس مع المؤسسة العسكرية.


ووجدت غالبية الناس فى «وثيقة السلمى» الدليل على أن المجلس العسكرى يحاول أن يسرق الثورة، وأنه يلقى العون من عناصر من القضاء والنخبة السياسية القديمة، فثارت البلاد.


وفى ٧ نوفمبر وعلى موقعه الإلكترونى كان علاء قد نشر نصا تحت عنوان «تضامنك لوحده مش كفاية» يطلب فيه من المتضامنين معه أن «يسدوا مطرحه» أثناء غيابه، فيحث على أن ينزل المتطوعون «يلفوا الشوارع والميادين والحوارى والقرى يجمعوا إجابات أهالينا على أسئلة بسيطة جدا عن مصر اللى بيحلموا بيها» لأن «إصدار وثيقة شعبية ترسم ملامح مصر الثورة فى رأيى أفضل حل للمأزق اللى القوى السياسية والنخب والعسكر والفلول عمالين يدخلونا فيه: موضوع الدستور»، ويعلن أنه يدعم تحالف «الثورة مستمرة» فى الانتخابات: «محتاجينه يكسب أكبر عدد ممكن من مقاعد البرلمان عشان يبقى فيه معارضة بحق داخل المجلس ويبقى فيه ناس نثق فيهم أنهم يراقبوا الحكومة وباقى القوى السياسية. محتاجينهم عشان يبقى فيه ناس تطرح مشاريع قوانين شعبية شارك فى صياغتها قوى شعبية ونشطاء ومناضلين، زى قوانين الحرية النقابية والتأمين الصحى والحد الأدنى والأقصى للأجور وزى مبادرة «شرطة لشعب مصر»، أهم وأشمل خطة لإصلاح الداخلية». ويلفت علاء النظر إلى أن «دعم مرشحى الثورة ميكونش بس بالدعاية لهم، دعمهم يكون بالضغط عليهم عشان مينسوش قضايا الثورة وميسرحوش عن الانحياز للناس. اضغطوا عليهم عشان يبقى العدالة وحقوق الشهداء، ووقف التعذيب والمحاكمات العسكرية، وتسليم السلطة والتطهير فى قلب برامجهم وحملاتهم». كما يذكر علاء القراء بمشروع القناة الفضائية الشعبية الذى يجب ألا «يهيمن عليه عواجيز وخبراء نواياهم حسنة، لازم كل الشباب اللى مهتم بالإعلام يشارك ويفرض نفسه كمان ولازم نبدع آليات لتنظيم العمل فى القناة تبقى ديمقراطية يشارك فيها العاملون والجمهور قبل قاعدة الملاك الواسعة. عشان يبقى عندنا إعلام أهلى بجد بيوصل أغلب البيوت ويقدر يقاوم ثنائى السلطة ورأس المال»، ويقترح علاء نماذج من الطرق التى يمكن بها للناس دعم الثورة: «فيه ألف طريقة وطريقة للمساهمة فى استمرار ونجاح الثورة، انضموا أو شكلوا لجانا شعبية لحماية الثورة فى أحيائكم وأماكن العمل والدراسة، انخرطوا فى حملة لا للمحاكمات العسكرية للمدنيين، شاركوا فى مبادرات الرقابة الشعبية على الانتخابات، ادعموا النقابات المستقلة والإضرابات العمالية، نظموا تويت ندوة فى مدنكم، افضحوا الفلول وعرفوا الناس بانتهاكات العسكر. أحسن طريقة للتضامن مع مسجون سياسى هو أنكم تثبتوا أنه مش مهم أصلا وفيه ملايين أحسن وأقيم منه».


وكان قد تم إعلان يوم ١٨ «مليونية المطلب الواحد: تسليم السلطة»: أن يعلن المجلس العسكرى أنه سوف يسلم السلطة إلى كيان مدنى منتخب فى موعد أقصاه إبريل ٢٠١٢.

شارع محمد محمود: ١٩ــ٢٤ نوفمبر ٢٠١١


نقدر أن نحو ثمانية آلاف من مصابينا وصلت إصاباتهم ‪ــ‬ التى تلقوها على أيادى الجيش والشرطة وبلطجية وزارة الداخلية ــ درجة من الحدة أو الإعاقة لا تسمح لهم بالعودة إلى حياتهم الطبيعية وأشغالهم التى اعتادوها. إميل مهندس مساحة شاب، تزوج أخيرا من محامية شابة أحبها، واستقرا فى شقة مِلك فى عمارة والده. حياتهما والحمد لله مُرَتَبة. ثم هشم الجيش ساقه فى تظاهرة فى مارس وهو الآن يَجُرها وراءه ويتكلف نفقات جلسات علاج طبيعى لا تفعل إلا أن تحميها من أن تذوى تماما. التقيته فى المستشفى القبطى حين ذهبت لأعود مصابى ماسبيرو وكان هو أيضا يزورهم. كان رقيقا للغاية، هشا، ناعم الصوت، تمتلئ عيناه بالدموع وهو يسأل «ليه؟ ليه بيعملوا كده؟» حين هممت بالمغادرة نادٍ على رجل أكبر سنا، مصاب برصاصة فى المعدة وحالته سيئة، نادى على من سريره، فجلست إلى جانبه وقربت وجهى من وجهه وهمس لى «لو عرفتى تعملى أى حاجة اعمليها لإميل؛ هو أكتر واحد تعبان».


وأخرى: رندة، ممرضة، الأطباء فى المستشفى الميدانى يطلبون منها أن تخيط الجروح لمهارة يدها. يوم ٢٨ يناير كانت تخيط رؤوس الشباب وضربها ضابط أمن مركزى فتسبب فى إصابتها بشلل رباعى. هى فى وحدة التأهيل فى مستشفى العجوزة، وهى لا تهادن. ما زالت على كرسى متحرك لكنها استعادت القدرة على تحريك ذراعيها. تُشَغِل أغانى الثورة بصوت عال وتقوم بالمهام التنظيمية لرفاقها من المصابين.


بعض المصابين كُسِروا، والبعض ما زال يكافح، والكل يحتاج إلى رعاية طويلة المدى. كثيرون يحتاجون عملا يقدرون على إنجازه والتعيش منه. أغلبيتهم مسئولون عن بيوت. كشفت لنا الثورة كم من الشباب يعولون أهاليهم، كم منهم أيتاما يحملون مسئولية أمهات، ومسئولية أخوات يحتجن إلى التعليم وإلى الزواج.


الكثير من الإصابات ــ وبالذات إصابات العيون ــ كان من الممكن تداركها. لكن المصابين، بعد إسعافات المستشفى الميدانى، دخلوا منظومتنا الصحية البالغة الرداءة. الكثير من الأطباء تطوعوا ففتحوا عياداتهم ليسعفوا ويعالجوا المصابين بدون أجر، جاءنا من الخارج أطباء مصريون وأجانب، ولكن لم يوجد طريق يضمن تلاقى المصاب والطبيب. والواقع أن الرعاية التى لاقاها أكثر المصابين كانت عن طريق أهل الخير، والنشطاء من الشباب الذين كرسوا (وما زالوا حتى وقت الكتابة يكرسون) مجهوداتهم لهذا العمل. أما حكومة المجلس العسكرى فهى لم ترغب ــ فى الحقيقة ــ فى العناية بالمصابين على الإطلاق، بل علمنا فيما بعد أنهم كانوا ــ إذا اضطروا إلى تقديم العلاج ــ يستعملونه كنوع من العقاب، فيخيطون الجروح ــ مثلا ــ دون استعمال البنج، أو يكلبشون المصاب فى سرير المستشفى بأشكال مؤلمة. ولا أدرى لماذا استغربنا هذا وقتها ــ فمن الذى أصاب المصابين بإصاباتهم أصلا؟ اكتفت الحكومة بإصدار التصريحات حول «تعويض» المصابين وتحديد القيمة المالية لإعاقة الساق أو فقأ العين، وتحمست أحيانا فحذرت الشعب من أن البعض يحاول استغلال كرمها وينتحل صفة المصاب الثورى.

ظل المصابون يطالبون الحكومة بالعون الطبى والعملى، وتهكم عليهم اللواء محسن الفنجرى ــ صاحب التحية العسكرية لأرواح الشهداء، أداها فى فبراير حين تعهد المجلس العسكرى بـ«حماية الثورة» ــ فقدم لهم النصيحة بالتوجه بمطالبهم للميدان ربما نفعهم. ونزل بعض المصابين فعلا إلى ميدان التحرير فبدأوا فيه اعتصاما فى يوم الجمعة ١١ نوفمبر. وبعد أسبوع، فى يوم الجمعة ١٨ نوفمبر (جمعة «مليونية المطلب الواحد: تسليم السلطة«) توجه مئات الآلاف منا إلى التحرير لنعبر عن إصرارنا على إجراء الانتخابات يوم ٢٨، وعلى أن يحدد المجلس العسكرى تاريخا لتسليم السلطة.


وجاء عيد ميلاد علاء: منال على بعد أسبوع واحد من موعد وضع طفلها، وليلى سويف فى نهاية الأسبوع الثانى من إضرابها عن الطعام، وعلاء اليوم عنده ٣٠ سنة. أتى الأصدقاء بتورتة ضخمة إلى الميدان، وأشعلنا الشموع وعصى الشمس والقمر ورفعنا أصواتنا بالغناء «سنة حلوة يا جميل» أمام المجمع حيث بدأ أهالى الشهداء والمصابين فى التجمع.


التحرير عاد من جديد. محاولة المجلس العسكرى التحكم فى كتابة الدستور شحذت الهمم، وجاءت الدعوة للاحتجاج من جميع الأحزاب والحركات والتحالفات. امتلأ الميدان والشوارع المجاورة، وكان مزاج الناس عاليا وأرواحهم مستبشرة. هتافات شباب الألتراس وأناشيدهم ملهمة للجموع، وشماريخهم تضىء السماء. وكان المتفق عليه أن الكل سينصرف فى نهاية اليوم، ونفَذ معظم الناس الاتفاق. ولكن، وكالمعتاد فى المواقف التى يشعر فيها الشباب أنهم ربما يخذلون الشهداء والمصابين وأسرهم، قرر البعض أن يظل معهم فى اعتصامهم الصغير الذى بدأ منذ أسبوع.


وفى صباح اليوم التالى، يوم السبت ١٩ نوفمبر، تحركت قوات الأمن المركزى فهاجموا خيام الاعتصام فهدموا بعضها وأشعلوا النيران فى البعض الآخر، ضربوا المصابين وأحاطوا بالصينية وبحديقة المجمع وتمركزوا على مخارج الميدان. انتشر خبر هجمة الداخلية فنزل الناس إلى التحرير بأعداد كبيرة وحين أتى العصر كان الميدان حولنا مسرحا للدخان والغاز المسيل للدموع والرصاص والخرطوش والمئات من جنود الأمن المركزى بالمدافع والبنادق والشوم والمئات من المحتجين يردون عليهم بالحجارة. أخذت القوات المسلحة جانبا، ومن حين لحين كانت تقوم بتغطية وحماية قوات الأمن المركزى.


الطريق المفضل لقوات الأمن المركزى من وزارة الداخلية فى لاظوغلى إلى التحرير هو شارع محمد محمود، ولهذا اعترض الثوار طريق الجنود فى شارع محمد محمود وبعد فترة نجحوا فى استيقافهم. ولمدة أربعة أيام وقف الشباب فى شارع محمد محمود يدافعون عن ميدان التحرير. صَوَر إعلام الدولة هذه المعركة على أنها «الثوار والبلطجية يحاولون اقتحام وزارة الداخلية»، بينما الشباب فى الحقيقة كانوا يضعون أجسادهم، غير المسلحة، فى طريق قوات الأمن المركزى ليحموا، مرة أخرى، المصابين والمتضامنين المدنيين فى التحرير. خمسون مترا بين حياة شبه عادية فى الميدان، وجبهة قتال فى محمد محمود. وحكى لنا الشباب حين خرجوا من محمد محمود إلى التحرير ليلتقطوا أنفاسهم، حكوا لنا كيف أشار الجنود لهم وطلبوا «السلام» ثم بدلوا الورديات وباغتوهم بالهجوم. وحكوا لنا، ونحن على بعد خمسين مترا، كيف كسر الأمن هدنة الصلاة التقليدية، وكيف شبت النيران فى عمارة سكنية، وتسلق الشباب جدران المبنى لينقذوا السكان واستغل الأمن اللحظة فأطلق عليهم الرصاص.

التعليقات