حنين إلى لحظات بديعة من داخل سحابة - جميل مطر - بوابة الشروق
الأحد 8 سبتمبر 2024 3:10 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

حنين إلى لحظات بديعة من داخل سحابة

نشر فى : الثلاثاء 23 يوليه 2024 - 10:05 م | آخر تحديث : الثلاثاء 23 يوليه 2024 - 10:05 م

أحن إلى موقع نشأتى وأيامى هناك. ولدت بعيدًا عن الجبل وقضيت بعض سنوات طفولتى ومراهقتى فى أرجاء سفحه. الجبل هو المقطم، أما السفح فهو حى الحسين وما وراء المسجد وصولًا إلى الحسينية ومرورًا ببيت القاضى وحارة قصر الشوق والجمالية وضمنها حارة الوراق التى هى مسقط رءوس عدد من العائلات التى اشتغلت بصناعة الورق والكتب والمكتبات.
• • •
تجاوزت فأطلقت على المقطم صفة الجبل، وهو بحسب رأى الخبراء ومعايير علم الجغرافيا لا يزيد عن كونه تلا. تجاوزى له أسباب. نشأت على نصيحة الأهل ألا أذهب وحدى بعيدًا ناحية الجبل، وإن ذهبت فلا أصعد عاليًا فى الجبل، وإن صعدت فليكن معلومًا أن فى كهوف الجبل يسكن أفراد عصابات وكائنات غريبة فى شكل بنى البشر تخصصوا فى خطف الأولاد. هذه النصيحة مثل نصائح كثيرة من هذا النوع كانت وراء فضول يبدأ صغيرًا ويكبر ثم يكبر حتى يصبح طبيعة ثانية لمراهق ثم لشاب ثم لدبلوماسى. عشت سنوات على حلم يتجدد مع مراحل نضوجى، عشت أحلم بيوم يأتى أتمكن فيه من فك طلاسم هذا الجبل وأى جبل، أصعده وأدخل فى كهوفه وأصل إلى قمته، وهناك أقف لأراقب البشر ساكنى السفح من عل. حدث بالفعل، واليوم أحن إلى يوم وقفت فيه على قمة تل من تلال المقطم أرقب فيه القاهرة، وقد تغطت بسحابة من عوادم السيارات زادتها غموضًا على غموض.
• • •
جاء يوم آخر. وقفت عند السفح أنظر بانبهار شديد إلى شموخ وكبرياء وعظمة. هكذا وصفت الهيمالايا فى أول لقاء بيننا. شموخ يجبرك على التواضع ثم يعود فيسحبك صاعدًا بك نحو أعالى الطموح والكبرياء. لا أخفيكم اعتقادى لسنوات عديدة أن الشعوب التى تعيش إلى جانب الجبال الشاهقة أو عليها مؤهلة أكثر من غيرها للنهوض ومن النهوض للقيادة. هناك فى مدينة مسورى النائمة فى حضن الهيمالايا رأيت هنودًا وديعين وقابلت هنودًا طامحين وغاضبين فى آن. قدرت وقتها أن يومًا سيأتى تعود فيه الهند إلى سابق عهدها باقتصاد يسمح لها بأن تتقدم الصفوف وببشر يقودون. ما قدرت قبل أكثر من ستين عاما يتحقق الآن. يا لها من مفاجأة تستحق منى الحنين إلى تلك الأيام.
• • •
دعتنى زميلة مع مجموعة من الصديقات والأصدقاء لمؤتمر يناقش تقريرًا عن حالتنا فى المنطقة وفى دولنا. وعدتنى بصحبة على مستوى طيب من العلم وخفة الظل وطيب المعشر وفى موقع فى ضاحية جبلية من ضواحى بيروت تظن أنه خلق لتهدئة الأعصاب وفرض الاستجمام وراحة البال. بالفعل دار النقاش فى المؤتمر مفيدًا وثريًا. أوينا فى ليلاتنا الأولى إلى الفراش مبكرًا بعد عشاء لبنانى مع الموسيقى والغناء. استيقظت فى الخامسة صباحًا لأجد نفسى وفراشى معى وكل غرفتى نهبا لسحابة بيضاء كثيفة. غاب عن أنظارنا البحر والقمم المتناثرة على امتداد النظر. هدوء غريب ومستحب. شعور رائع يختلط بمداعبات من نتف السحاب. كانت أول مرة سحابة تشاركنى فراشى وغرفة نومى. تعددت مرات حنينى لهذا الموقع واستطعت إشباع الحنين أكثر من مرة. وما زلت أحن.
• • •
مرت سنوات ليست قليلة. كنت أزمع السفر إلى أمريكا لمسائل علاجية. قررت أن أمر بالنمسا فأستقل الطائرة النمساوية فى رحلة لا تتوقف من فيينا إلى أتلانتا عاصمة ولاية جورجيا الأمريكية. كان لقرارى دافع آخر وهو الالتقاء بزوجين مصريين مقيمين بالنمسا. استقبلانى وكان اللقاء الأول بهما كعادتنا كريمًا ودافئًا. رسمًا برنامجًا لزيارتى. فى الصباح نصعد مع الجبل حتى القمة ونقضى معظم اليوم هناك. فى المساء نصعد مرة أخرى نحو موقع قرب السفح نتناول فيه عشاءنا. أعرف الموقع الثانى فقد زرته مرارًا لتناول أشهى وجبات الدجاج المشوى. أذكره أيضًا لأن الرئيس السادات كان يطلب من مضيفيه النمساويين والعرب حجز أمسية يقضيها معهم فى هذا الموقع.
• • •
أذكر هذا الموقع عند السفح ولكنى أحن لموقع الصباح عند القمة. هناك قضينا فى ذلك اليوم ساعة أو أكثر وسط سحابة حرمتنا من رؤية فيينا الراقدة عند السفح لكنها لم تحرمنا من رؤية تفاصيل ما حولنا فى القمة من بشر وزهور جبلية وصحون فطير التفاح. كانت الصديقة صاحبة الدعوة تعرف عن علاقتى الخاصة جدًا بفطيرة التفاح ولذلك أصرت على استضافتى فى هذا الموقع وفى مقهى تخصص فى صنع هذه الفطيرة حتى قيل إن الألمان يأتون إليه وهم من عشاقها. إن نسيت الرحلة على أهميتها فلن أنسى سعادتى الفائقة، وأنا فى صحبة رائعة أتلذذ بأكل فطيرة التفاح ثم أخرى بالقشدة ومستمتعًا ببرودة منعشة وسط سحابة بيضاء كالقطن المندوف ونحن على قمة جبل مهيب فى خضرته وعلو هامته وسخاء جماله. نعم أحن إلى تلك القمة وصحبة ذاك اليوم. لعلمكم الحنين يتجدد حينًا بفعل فاعل وأحيانًا دون فاعل.
• • •
أحن إلى الماضى ولا أخجل من الإعلان عن ولعى بهذا الشعور وما يتولد عنه من سلوك. أقول لا أخجل لأن مدرسة فى علم النفس خرجت ذات مرة قبل قرن وأكثر بنظرية تتهم ممارسى الحنين للماضى بأنهم أفراد فاقدوا الهوية يسعون فى الأرض باحثين عن «هوية جمعية» ينتسبون لها. اتضح لمدرسة أخرى فى علم النفس أن أغلب المنتمين للمدرسة الأولى هم من اليهود المشبعين بالعقيدة الصهيونية. تقول نظريتهم الصهيونية، إن المغرمين بالحنين الماضى إنما هم مرضى بالنرجسية، أى بالاهتمام المبالغ فيه بالذات، وهم الذين وضعوا الأسس لكثير من قوميات ظهرت فى القرن التاسع عشر، هذه القوميات فى نظرهم كانت الخطر الأشد الذى يواجه الصهيونية، لأنه كان يضع اليهود لأول مرة منذ خروجهم إلى الشتات فى مأزق الاختيار بين القوميات.
• • •
نعم. أحن إلى الماضى. أحن إليه حنينًا لا يعادله حنين آخر. أحن إلى كل ما ومن ساهم فى تكوينى منذ النشأة وحتى الاكتمال.. حين يتحقق.

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي