وصلت إلى لبنان أصداء الأحاديث المتداولة فى مصر حول تطلع الكنيسة القبطية لأداء دور ما فى الشأن العام وفى السياسة تحديدا.
وإذا كان لبنان يتقبل منذ عقود هذا الدور للكنيسة ــ بل للكنائس ــ اللبنانية على أنه جزء أساسى من معادلة التعايش الوطنى، فقد استقبل الأصداء القادمة من مصر باستغراب وبشفاة مقلوبة.
لم يكن لبنان مرتاحا أبدا إلى معادلته الطائفية التى تلعب فيها المرجعيات الدينية الإسلامية والمسيحية على حد سواء ومن كل المذاهب دورا مباشرا ومؤثرا فى عملية اتخاذ القرار السياسى. كان يتطلع باستمرار إلى البحث عن وسيلة للتخلص منها. ولذلك تضمن ميثاق الوفاق الوطنى الذى أقرّ فى الطائف فى عام 1989 نصا يقول بتشكيل هيئة وطنية عليا لإلغاء الطائفية السياسية. غير أن هذه الهيئة لم تشكل حتى الآن.
وفى الوقت الذى يتنادى فيه اللبنانيون اليوم إلى ضرورة تشكيلها، تأتى أصداء الأحاديث الواردة من مصر لتشكل صدمة معنوية غير متوقعة. ذلك أن صورة مصر فى الثقافة اللبنانية تجعل منها الملاذ الآمن للوطنية اللاطائفية، وتقدمها على أنها قدوة حسنة للفصل بين الإيمان الدينى والعمل السياسى.
إذا كان من تعريف للسياسة فى هذا المجال، فهو أنها فن التعامل بنسبية مع الأحداث. الأمر الذى يعنى أن كل المواقف من كل القضايا يجب أن تكون مفتوحة دائما على الخطأ والصواب. وبالتالى على ضرورات وعلى حتميات إعادة النظر والمساءلة والمحاسبة، وبالتالى على ممارسة النقد الذاتى تقويما وتصحيحا. فى السياسة لا توجد مسلمات دائمة. كل شىء نسبى ومتغير. وكل شىء متحرك ومتبدّل. وذلك على عكس ما هو دينى. هنا كل شىء مطلق ومقدس وثابت وغير قابل للجدل والنقاش.
فى السياسة يتحمل الإنسان تبعات خطأ اجتهاده، ويدفع ثمن سوء قراراته سواء لجهة إبداء الرأى من قضية ما، أو الالتزام بموقف ما، أو القيام بعمل ما. ولكن عندما يتعلق الأمر بالشأن الدينى فإن الخطأ هنا ليس مسموحا به من حيث المبدأ. لأن الدين وحى إلهى. وما هو إلهى هو فوق الخطأ. الإنسان يخطئ ولذلك يعاد النظر دائما فى القوانين وحتى فى الدساتير. ولأن الإنسان يدرك أنه يخطئ، فقد وضع آلية لعملية إعادة النظر هذه. أما الوحى الإلهى فإنه فوق الخطأ. ولذلك فإن ما يصدر عنه وما ينص عليه من الشرائع الدينية فهو ثابت ودائم. ولا توجد آلية لتغييره، ولكن توجد آلية لإعادة فهمه فى ضوء المستجدات من الأمور. وبالتالى فإن من يتحدث أو يتصرف باسم الإله يتمتع بحصانة ــ أو هكذا يفترض ــ تحميه من التعرّض لأى نقد أو مساءلة. وأى تجاوز لهذه الحصانة يفهم أو يفسر على أنه انتهاك لحرمة الدين ولقدسيته؛ ويجرى التعامل معه على هذا الأساس.
من هنا فإنه عندما يختلط الأمر بين ما هو سياسى وما هو دينى، وبين من هو السياسى ومن هو الدينى، يتداخل النسبى مع المطلق، والمتغير مع الثابت، والإنسانى مع المقدس.
من حيث المبدأ، لا يجوز منع رجل الدين ــ لأنه رجل دين ــ من أن يقول رأيه فى القضايا السياسية العامة. فهو مواطن كغيره من المواطنين، له حقوق وعليه واجبات. ثم إنه راع ومسئول عن رعيته. ولكن المجتمعات التى تسود فيها ثقافة إضفاء المقدس على الإنسانى، تعطى حقوق المواطنة التى يتمتع بها رجل الدين وتعطى دوره كراع، مفاهيم والتزامات تتجاوز الحدود التى ترسمها وتحددها القوانين الوطنية الوضعية.
وعندما يكون المجتمع متعدد الأديان والمذاهب كالمجتمع اللبنانى، أى عندما يكون متعدد المراجع الدينية، وعندما تكون هذه المراجع تتمتع بمواقع روحية تمنحها حصانة استثنائية لأنها تمثل ما هو أسمى من القوانين، أى الشرائع السماوية، وعندما يكون الولاء الروحى العميق للطائفة ولرموزها الدينية أقوى من الولاء السياسى للوطن ولقوانينه،عند ذلك تتعزز المخاوف من خطر تحول الاختلاف فى جهات النظر العلنية بين أى رجلى دين إلى خلاف بين طائفتيهما.. وبالتالى إلى خلاف وطنى.
تقوم العلاقات بين الناس عامة، وبين أبناء الوطن الواحد خاصة على قاعدتين من الاحترام. القاعدة الأولى هى احترام الرأى المختلف من حيث إنه تعبير عن قيم وآراء ومفاهيم ورؤى تشكل مكونات أساس من مكونات الشخصية. وكلما اتسعت «الأنا» للآخر، تتسع معها آفاق التفاهم المشترك والاحترام المتبادل. فالآخر المختلف هو الضوء الساطع لمعرفة الذات ولمعرفة الآخر معا. ومن دون هذه المعرفة ببعديها تضيق الأنا بذاتها وبالآخر، وتتقلص آفاق التعارف حتى الاختناق.. وهى حالات غير نادرة تصل بأصحابها إلى حد محاولة إلغاء الآخر فكرا أو حتى جسدا.
أما القاعدة الثانية فهى احترام عقيدة الآخر الدينية من حيث إنها تعبير عن إيمان موحى به من السماء. وإذا كان احترام الرأى الإنسانى ضروريا لقيام علاقات سليمة، فإن احترام العقيدة الدينية (السماوية) ضرورى أكثر للمحافظة على هذه العلاقات السليمة سواء بين الأفراد أو بين الجماعات. فهنا يتكامل الإنسانى بالمقدس، وهو التكامل الذى يسمو بالمجتمعات إلى مستوى الكمال الذى تنشده دائما.
غير أن الاختلاف السياسى بين رجال الدين أو بينهم وبين الدولة فى مؤسساتها المدنية يوجه ضربات مدمرة إلى القاعدتين اللتين يقوم عليهما هذا النوع من العلاقات، أى قاعدة احترام الرأى المختلف، وقاعدة احترام العقيدة المختلفة. فالاختلاف هنا يعطل القدرة على التمييز بين ما هو سياسى وما هو دينى. وهو تعطيل لا يخدم مصلحة أحدهما على حساب الآخر، ولكنه يسىء إليهما معا، ويؤسس فوق ذلك لمشاعر العداء والكراهية.
من أجل ذلك يحتاج المجتمع المتعدد إلى ثقافة بناء الجسور اعتمادا على قيم المحبة والاحترام. فالمحبة من دون احترام قد تتحول إلى شفقة. والشفقة تتعامل مع الحق كمنّة. وهذا نوع من «الذمية» التى لم تعد صالحة لوحدة المجتمع أو لوحدة الدولة والوطن. والاحترام من دون محبة لا يبنى ثقة ولا يؤسس أخوة حقيقية.
إن الوحدة الوطنية بين المختلفين دينيا أو عنصريا أو ثقافيا.. تقوم على احترام المختلف معه وعلى احترام حتى خياراته النرجسية. وبموجب ذلك يفترض برجال الدين أن يكونوا المؤمنين والمؤتمنين على ثقافة بناء الجسور بين أبناء وبين جماعات الوطن الواحد. ولكن عندما يستدرجون ــ من حيث يريدون أو لا يريدون ــ إلى حلبات الصراع السياسى، وعندما تتمحور اختلافاتهم ومساجلاتهم حول قضايا زمنية ــ لا روحية ــ متحركة ومتغيرة باستمرار، فإنه يخشى أن يفسد ملح طعامهم الروحى «وإذا فسد الملح فبماذا يملح»؟.
هناك تجربتان متناقضتان. التجربة اللبنانية القائمة على التداخل العضوى والمباشر بين ما هو دينى وما هو سياسى. وهى تجربة يشكل التحرر منها هدفا يجمع عليه اللبنانيون من كل الأديان والمذاهب، والتجربة المصرية القائمة على الفصل التام بين ما هو دينى وما هو سياسى، وهى تجربة يحرص اللبنانيون على أن يستلهموا من نجاحاتها ما يعزز تطلعاتهم نحو هدفهم الإصلاحى الكبير.
ولذلك فإن أخشى ما يخشاه اللبنانيون هو أن تتأثر التجربة المصرية بتجربتهم على النحو الذى توحى به الثرثرة المتداولة على ضفاف النيل!! إن أملهم هو أن يحدث العكس.