كشف خطاب الرئيس مرسى الأخير إلى الرئيس الإسرائيلى عن أهمية إعادة صياغة سياسة مصر الخارجية تجاه الكيان الإسرائيلى ومجمل قضايا الصراع العربى الصهيونى. وفى اعتقادى أن الاهتمام المصرى الرسمى والشعبى لابد أن يمتد من شكل العلاقات إلى جوهرها وموضوعها، ولابد أن يبدأ من قراءة صحيحة لواقع السياستين الخارجية المصرية والإسرائيلية قبل 25 يناير، ثم يقوم ببناء سياسة مصرية جديدة على أسس جديدة تماما، تستند إلى رؤية محددة تعالج أخطاء النظام السابق وتحقق مطالب ثورتنا بشأن العلاقة مع الخارج.
ففى واقع الأمر، حقق الإسرائيليون ثلاثة مكاسب أساسية من علاقتهم بمصر خلال العقود الماضية، أولها مكسب عسكرى/استراتيجى، وهو تحييد مصر وتأمين الجبهة الجنوبية وتخفيف العبء المالى وتوجيه الاهتمام لجبهات أخرى، والثانى مكسب ثقافى/نفسى وهو قيام النظام السابق، ومعه أنظمة عربية أخرى، بزرع ثقافة التسوية المختلة وتشويه ومحاصرة المقاومة فنشأت أجيال لا تعرف أبجديات الصراع وتؤمن بعبثية المقاومة. والثالث مادى/تجارى وهو تحقيق مكاسب مادية من التطبيع الزراعى والحصول على تفضيلات سياحية وتسهيلات فى النفط والغاز.
وفى المقابل كان هناك ثلاث مشكلات رئيسية فى السياسة الخارجية السابقة، أولها ضعف الإرادة السياسية للقيادة وتبعيتها الكاملة للغرب وافتقادها الرؤية السياسية التى تحقق مصلحة مصر والعرب، بجانب اختلال ميزان القوة بين مصر والعرب من جهة وإسرائيل من جهة أخرى نتيجة ضعف أنظمة الحكم العربية من الداخل ونفوذ اللوبى الصهيونى فى الخارج، وأخيرا تجاهل طبيعة الدولة الصهيونية ومقومات وجودها عند التعامل مع سياساتها وممارساتها تجاه مصر والمنطقة.
تقتضى صياغة السياسة الجديدة أخذ هذه الأمور فى الحسبان، بالعمل أولا على تقوية الجبهة الداخلية باستكمال عملية وضع دستور ديمقراطى يُرسى دولة القانون والمؤسسات الديمقراطية المنتخبة، وإيجاد حكومات وطنية موسعة وغير إقصائية. فهذا النوع من الحكومات يكون أكثر قدرة على صياغة رؤية وطنية وعلى الإستفادة من الزخم السياسى الذى وفرته الثورة والاستفادة من شرعية وقوة المؤسسات المنتخبة وتحويلها إلى فرصة لبناء سياسة خارجية مؤثرة. ومن ثم استخدام جميع الكفاءات الوطنية (بعيدا عن الانتماءات الحزبية) وجميع عوامل القوة الناعمة والصلبة لتحويل مطالب الثورة (باسترداد الكرامة وإنهاء التبعية وتحقيق المصلحة المصرية) إلى سياسات فاعلة برؤى ووسائل محددة وواضحة، مع الاهتمام بوزارة الخارجية وتقويتها على أسس جديدة ثقافيا ومؤسسيا.
بجانب ضرورة البدء فى صياغة هذه السياسة من حقيقة الدولة الإسرائيلية ومن الفهم الواعى لمقومات وجودها كدولة عنصرية وتوسعية وقوة الاحتلال الوحيدة الباقية فى عالمنا، فبدون هذا لن يُكتب لأى سياسة خارجية النجاح، بل والأخطر أنها قد تُسهم فى ترسيخ دعائم هذه الدولة بالمنطقة والعالم، تماما كما فعلت اتفاقيات التسوية الموقعة من قبل.
والانطلاق من هذا الفهم لمواجهة المكاسب المجانية التى حصل عليها الإسرائيليون من النظام السابق بالعمل على إعادة تعريف الصراع العربى الصهيونى على حقيقته ورفع سقف المطالب العربية وفتح الملفات الكبرى مع الإسرائيليين لدفعهم دفعا إلى الدفاع عن النفس وتقديم تنازلات حقيقية. فالسلام الحقيقى لن يتم إلا بتناول جوهر الصراع، أى المطالبة بستة أمور على الأقل: تفكيك جميع المستعمرات اليهودية، الاعتراف بالحقوق الفلسطينية بما فيها حقى تقرير المصير والعودة، إلغاء القوانين والإجراءات العنصرية ضد غير اليهود، دفع تعويضات عن الانتهاكات التى ارتكبت منذ 1948 وفى ظل الاحتلال بالضفة وغزة والجولان وسيناء، وقف تهويد القدس وغيرها من المدن، وفك حصار غزة وإعادة بناء آلاف المنازل المهدمة وإعادة الأراضى المنهوبة.
فلا سلام بدون مواجهة صفتى «العنصرية» و«الاستعمارية» للدولة الإسرائيلية. وهذا النوع من الدبلوماسية موضوعى وواقعى، وعلى أساسه تم تطبيق حلول مشابهة بمناطق أخرى كجنوب أفريقيا وأيرلندا.. أما الحلول التى تجاوزت هذه الأسس فلم تحقق لا السلام ولا الأمن، لأنها قامت على تنازلات طرف واحد هو الطرف العربى.
ومن الأهمية أيضا إعادة ربط جميع قضايا الصراع وتوحيد المطالب العربية تجاه الإسرائيليين فى مسار واحد، وتفعيل دور الجامعة العربية وقيادة مصر للدول العربية لتحقيق هذه المطالب. لقد كان من أبرز مساوئ اتفاقيات التسوية مع مصر والأردن ومنظمة التحرير تقسيم قضايا الصراع لمسارات منفصلة. حان الوقت لإعادة ربط هذه القضايا وبناء صوت عربى واحد يعبر عنها. ولا شك أن إتمام المصالحة الفلسطينية من الأمور الجوهرية هنا.
ومن الضرورى استخدام الزخم الثورى ودولة المؤسسات الديمقراطية لمواجهة السياسة الخارجية الأمريكية، والغربية عموما، التى تبدو منذ عقود غير قادرة، أو غير مقتنعة، بإمكانية الضغط على الإسرائيليين. لابد هنا للمؤسسات المنتخبة فى مصر من ترجمة نبض الشارع إلى أفعال ومواقف محددة أمام جميع المحافل الدولية، واستخدام الزخم الثورى فى التفرقة بين الحل الوسط التاريخى المنشود وبين ما عُرف بالمسيرة السلمية، التى ما دخلها رئيس الوزراء الأسبق إسحاق شامير بمؤتمر مدريد إلا بعدما أعلن أنه سيدخل «عملية تسوية» قد تمتد 100 عام.
والمجال مفتوح لقيام الجهات الرسمية والأهلية باستخدام أوراق أخرى بشكل مدروس وواع، ليس من ضمنها تحريك الجيش أو حتى تعديل الإتفاقية فى الوقت الراهن. من هذه الأوراق المطالبة بتعويضات مالية عن فترات الاحتلال بسيناء، وقيادة حملات دعائية عالمية لدعم الحقوق العربية، وتكليف لجنة من فقهاء القانون الدولى والسياسة بإعداد ملف عن جرائم الجيش الإسرائيلى بالأراضى المحتلة وتقديمه للمحكمة الجنائية الدولية ومحاكم الدول الغربية لملاحقة قادة الاحتلال أينما وجدوا، بجانب قيادة حملة دبلوماسية ودعائية فى محاكم أمريكا لوقف تصدير السلاح الأمريكى إلى الإسرائيليين لاختراق الدولة الصهيونية قوانين تصدير السلاح الأمريكى، لأنها تستخدم السلاح الأمريكى ضد المدنيين وليس للدفاع عن النفس (وهذا يخترق قانون المساعدات الخارجية (FAA) لعام 1961)، وتصدر السلاح الأمريكى لطرف ثالث (وهذا يخترق قانون تصدير السلاح (AECA لعام 1976). ويمكن هنا التعاون مع المنظمات الحقوقية الدولية والغربية التى تتسم بالحياد.
وأخيرا هناك مهام أخرى لمعالجة الأثر النفسى/الثقافى الناتج عن عقود من زرع ثقافة سلام زائف وتشويه المقاومة، كالقيام بحملات إعلامية بالفضائيات والصحف العربية وأمام الإعلام الغربى لتعرية اختراق القوانين والممارسات الإسرائيلية لمبادئ القانون الدولى وحقوق الإنسان وفضح عمليات تهويد فلسطين، وكادخال مقررات فى المدارس والجامعات المصرية للتعريف بأبجديات الصراع وجميع أبعاده السياسية والعسكرية والاقتصادية والحضارية.
لا يمكن ولا يعقل أن تقوم ثورة فى مصر ولا تنعكس على سياستها الخارجية ومواقفها من مجمل الصراع