أن لا تُصدر المحكمة الجنائية الدولية مذكرتى اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع الإسرائيلى السابق يوآف جالانت، هو ما سيكون مستغربا فى ضوء التهم الموجهة إليهما بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، فضلاً عن استخدام التجويع كسلاح حرب «وغيرها من الأفعال غير الإنسانية».
أما وأن المحكمة أصدرت مذكرتى الاعتقال، فإن إسرائيل والولايات المتحدة تصدرتا المواقف المعترضة والشاجبة، فيما رحّبت معظم دول العالم بموقف المحكمة.
هذه المقالة تتناول ماهية المحكمة وآلية عملها وصلاحياتها وما بعد إصدار مذكرتى التوقيف.
المحكمة الجنائية الدولية وجدت فى أواخر القرن الماضى من أجل عدم إفلات مرتكبى الجرائم الكبرى والإبادة من العقاب لأن القوانين فى الدولة التى يتبعون لها لم تحاكمهم أو قرّرت العفو عنهم. إنها محكمة تلاحق المرتكبين خارج حدود دولهم إلى داخل حدود الدول الموقعة عليها.
• • •
تشمل صلاحية المحكمة «أخطر الجرائم التى تمسّ المجتمع الدولى بأكمله» التى ارتكبت بعد دخول نظام روما حيز النفاذ وتشمل ما يلى: جرائم الإبادة؛ الجرائم ضد الإنسانية؛ جرائم الحرب؛ جريمة العدوان التى أضيفت عقب مؤتمر التنقيح الأول لنظام روما الأساسى فى يونيو 2010. وتجدر الإشارة إلى أن المحكمة الجنائية الدولية تحاكم أفرادا على جرائم ارتكبوها، ولا تحاكم دولاً.
هذه المحكمة دولية ولكنها ليست تابعة للأمم المتحدة. والفرق بينها وبين محكمة العدل الدولية أن هذه الأخيرة جزءٌ من هيئات الأمم المتحدة. كل دولة عضو فى الأمم المتحدة تلتزم مقررات محكمة العدل الدولية. بينما المحكمة الجنائية الدولية تلزم الدول الموقعة عليها فقط. ليس لدى المحكمة جهاز شرطة ولا جيش خاص بها. فهى تعتمد على الدول فى القبض على المشتبه بهم وتسليمهم. وتبقى أوامر القبض سارية المفعول مدى الحياة ما لم يُقرّر قضاة المحكمة خلاف ذلك. مقر المحكمة هو فى مدينة لاهاى فى هولندا.
ما هى أبرز الدول الموقعة؟ معظم الدول الأوروبية وخصوصا فرنسا وبريطانيا وألمانيا وإيطاليا وبلجيكا وهولندا وجميع دول أمريكا اللاتينية ونحو نصف الدول الإفريقية. أما الدول غير الموقعة فأبرزها الولايات المتحدة وروسيا والصين والدول العربية ما عدا الأردن والسلطة الفلسطينية وجزر القُمُر. (من سخرية الأقدار أنه يتوجب على السلطة الفلسطينية حسب نظام روما أن تعتقل نتنياهو وتسلمه إلى لاهاى).
كيف يسير عمل المحكمة؟ يُقدّم المدعى العام لائحة اتهام واقتراحات بإصدار مذكرات اعتقال للأشخاص المتهمين. تدرس هيئة المحكمة اللائحة وتُقرّر إصدار مذكرات اعتقال أم لا. تلتزم الدول الموقعة تسليم المطلوب إلى مقر المحكمة فى لاهاى وتبدأ محاكمته. ومن أبرز من صدرت بحقهم مذكرات اعتقال وتوقيف رئيس ليبيريا السابق تشارلز تايلر والرئيس اليوغوسلافى السابق سلوبودان ميلوسيفيتش والرئيس السودانى السابق عمر حسن البشير (بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وجرائم إبادة).
• • •
فور الإعلان عن طلب المدعى العام إصدار مذكرات اعتقال بحق نتنياهو وجالانت، صدرت اعتراضات أمريكية وخصوصا من مجلس الشيوخ الأمريكى ووجه ١٢ سناتورا رسالة إلى مدعى عام المحكمة الدولية أبرز ما جاء فيها أن هذه المحكمة لم تأمر باعتقال المرشد الإيرانى على خامنئى ولا الرئيس السورى بشار الأسد ولا رئيس المكتب السياسى لحركة حماس إسماعيل هنية ولا الرئيس الصينى شى جى بينج. واعتبر هؤلاء أن استهداف إسرائيل هو استهداف لسيادة الولايات المتحدة، ولوّحوا بوقف جميع أشكال الدعم للمحكمة وبمعاقبة هيئاتها وموظفيها وفرض حظر على دخول عائلاتهم إلى الولايات المتحدة. ومن أهم الموقعين على الرسالة السناتور ماركو روبيو (معين وزيرا للخارجية فى إدارة دونالد ترامب)، تيد كروز (مرشح رئاسة سابق)، ميتش مكونيل (زعيم الأغلبية السابق).
عراقيل أمام المحكمة: تعرّضت المحكمة لاتهامات كثيرة بينها فى ٥ أكتوبر ٢٠٢٤ عندما تم اتهام المدعى العام عمران خان بـ«التحرش الجنسى»، ما هدّد بنية المحكمة وقدرتها على إصدار مذكرات توقيف وتعزّزت هذه المخاوف بعد إعلان المحكمة فى ٢٨ أكتوبر ٢٠٢٤ أنها ستُغير لأسباب صحية واحدة من القضاة الذين سوف يبتون فى طلب ممثلى الادعاء إصدار مذكرة توقيف بحق نتنياهو، ما يؤدى إلى مزيد من التأجيل فى بت القضية.
فى ٢١ نوفمبر ٢٠٢٤، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرتى اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف جالانت وقائد «كتائب عزالدين القسام» محمد ضيف (هناك تأكيد إسرائيلى لاستشهاده وتجاهل للأمر من جانب حركة حماس)، وأضافت المحكمة أن جرائم الحرب المنسوبة إلى نتنياهو وجالانت تشمل استخدام التجويع سلاح حرب، كما تشمل جرائم ضد الإنسانية، تتمثل فى القتل والاضطهاد وغيرهما من الممارسات غير الإنسانية. وأكدت المحكمة أن قبول إسرائيل باختصاص المحكمة «غير ضرورى»، واعتبرت أن الكشف عن أوامر الاعتقال يصب فى مصلحة الضحايا.
• • •
أصبح نتنياهو مطلوبا للعدالة الدولية وتلطّخت سمعته وسمعة ودولته العنصرية لأنه مارس الإبادة وجرائم الحرب بصفته رئيسا لحكومة إسرائيل وقائدا أعلى للقوات المسلحة الإسرائيلية. وعليه، يجب أن تتخذ الدول الموقعة على نظام المحكمة إجراءات ضد حكومته أقلها عدم تزويدها بالسلاح كما تفعل ألمانيا وبريطانيا، وهما دولتان موقعتان. لا يمكن الاكتفاء بالقول إنه إذا حضر إلى هذه الدولة أو تلك سنوقفه ونودعه مقر المحكمة فى لاهاى. على الدول والمنظمات الحقوقية التركيز على وقف التسليح لأن هذا السلاح سوف يوضع بإمرة مطلوب للعدالة الدولية.
فهل تلتزم الدول الموقعة وغير الموقعة بوقف الاتصالات مع حكومة يرأسها نتنياهو المطلوب لهذه المحكمة الدولية وتجمد أو تقطع العلاقات التجارية والدبلوماسية طالما هو يرأس السلطة التنفيذية فى تلك الدولة؟
يمكن القول إن المحكمة الجنائية الدولية صناعة سياسية قضائية أوروبية لم تستسغها باقى القوى العظمى مثل الولايات المتحدة وروسيا والصين. لذلك سارعت الدول الأوروبية وكندا لتأييد مذكرات الاعتقال، وأبدت استعدادها لتنفيذها (أى توقيف نتنياهو وجالانت فور دخولهما أراضى تلك الدول). لكن الموقف فى الولايات المتحدة كان معارضا بعنف لإصدار هذه المذكرات.
الرئيس جو بايدن انتقد إصدار هذه المذكرات وأعرب عن دعمه لحق إسرائيل فى الدفاع عن نفسها ضد حماس. وبالطبع تحركت اللوبيات الصهيونية ضد المذكرات وضد المحكمة الجنائية الدولية. لكن الملفت للانتباه كان فى معسكر الرئيس المنتخب ترامب حيث قال مستشار الأمن القومى المعين مايك والتز: "توقعوا ردا قويا فى يناير المقبل (موعد تولى ترامب مقاليد السلطة فى الولايات المتحدة فى 20 يناير 2025) على تحيز المحكمة الجنائية الدولية المعادى للسامية.
ووقع خبر صدور المذكرتين كالصاعقة على رءوس المسئولين الإسرائيليين فى الحكم والمعارضة. فقد أدان نتنياهو قرار المحكمة بإصدار مذكرات اعتقال بحقه وجالانت، ووصفه بالمخزى والمعادى للسامية، ودعا وزير الأمن القومى إيتمار بن غفير للرد على المذكرات بفرض السيادة على الضفة الغربية وتعزيز الاستيطان وقطع العلاقات مع السلطة الفلسطينية التى وصفها بالإرهابية.
ومن المتوقع أن تُؤدى هذه المذكرات إلى نزاع أوروبى أمريكى يشمل فهم الجانبين لقضايا القانون الدولى والعدالة الدولية إلخ.. ومن جهة، تبدو الدول الأوروبية محرجة أمام شعوبها طالما أنها تُروّج أمامها يوميا لاحترام القانون الدولى وحقوق الإنسان، وهى مضطرة لاحترام قرارات المحكمة ولا يبدو أنها مستعدة لتمييعها لأن مصداقيتها على المحك ولكنها غير قادرة على مواجهة الولايات المتحدة من جهة أخرى.
أما فى الولايات المتحدة فقد تتوسع الإدارة الجديدة فى مسار وقف تمويل المنظمات الدولية وحلف شمال الأطلسى وتزيد من عزلتها وقد يدخلنا ذلك فى وضع دولى جديد وسط صمت وترقب من كل من روسيا والصين.
لقد تسببت حرب 7 أكتوبر بعزلة دولية لإسرائيل عبّرت عنها مواقف الكثير من الدول، شرقا وغربا، بمعزل عن فاعليتها أو عدم فاعليتها، كما رصدنا الحراك الطلابى الأمريكى غير المسبوق منذ حرب فيتنام ومثله فى العديد من العواصم الأوروبية، فضلاً عن مظاهرات عمّت العديد من عواصم أوروبا، احتجاجا على حرب الإبادة المستمرة، ومن المتوقع أن يؤدى صدور المذكرتين إلى تقييد سفر رئيس الحكومة الإسرائيلية وإلى إحراجات دبلوماسية وسياسية للعديد من الدول التى ستكون مضطرة للتجاوب مع قرارات المحكمة من جهة، وتبدى خشيتها من اتهامها إسرائيليا بمعاداة السامية إذا قرّرت تنفيذ المذكرتين من جهة ثانية. وفى الوقت نفسه، ستجعل إسرائيل موقف هذه الدول معيارا لتعاملها أو استقبالها لأى مسئول ينتمى إلى دولة أيّدت قرارات المحكمة، وهذا الأمر سيؤدى فى النهاية إلى زيادة عزلة إسرائيل دوليا.
إلياس فرحات
موقع 180
النص الأصلي:
https://tinyurl.com/wkduh78n