خرج أحدنا من مصر، فأصبح بالأمل والعلم والعمل أحمد زويل، وحين زارنا كان كمن خرج من كهف سقراط ثم عاد إليه. وكهف سقراط يجسد مثالا ذكره أفلاطون عن أستاذه لأهل أثينا ليوضح لهم المسئولية الأخلاقية لأهل العلم والفلسفة حين يتعلمون ويفقهون بأن يحاولوا مساعدة ذويهم.
فصور سقراط نفسه على أنه كمن عاش مع أهل أثينا في كهف لسنوات طوال يرون جميعا على جدران الكهف خيالات يحسبونها مخلوقات حقيقية يخشونها لأنهم لا يعرفون حقيقتها. وحين خرج سقراط من الكهف تبين له أن ما كان يراه على جدران الكهف ليس إلا انعكاسات لمخلوقات موجودة في الخارج وأن حياة العلم والمعرفة خارج الكهف وإن كانت أكثر إرهاقا لكنها الحياة الحقيقية التي يجدر بالإنسان أن يطمح للعيش فيها. وهنا يكون السؤال هل يعود سقراط إلى أهله لينبههم أم يضن عليهم بما علم حتى لا يفسد عليهم "نعيم جهلهم"؟ عاد سقراط، ولكنهم قتلوه بتهمة الهرطقة، أي تسفيه السائد من معتقداتهم.
التقيت مع الدكتور زويل مرتين وشاهدت له عدة حوارات مسجلة وكلما استمعت إليه أسأل نفسي: هل أجمل ما في مصر ماضيها؟ هل مصر كأثينا، حضارة بلا تحضر؟ أثينا كانت في القرن الخامس قبل الميلاد أرضا خصبة لكبار الأسماء من الفلاسفة والمناطقة وعلماء الحساب والهندسة والفلك (سقراط، أفلاطون، أرسطو، إقليديس، فيثاغورث وغيرهم)، كانوا أشجارا راسخة في أرض عفية. ولكن أرض أثينا بارت ولم تخرج لنا بعد تاريخها هذا أي إسم كبير في أي من مجالات الحياة. هل أجمل ما فيها ماضيها؟
هل بارت الأرض المصرية ففقدت قدرتها على الانتاج والإثمار؟ فتخرج النبتة هنا، ولكن لا بد لها من الرحيل إلى أرض الغير حتى تثمر.
أخطر ما قاله العالم زويل عندي هو إشارته للباحثين المصريين الذين يعملان معه في "كالتاك" وترجيحه أنهما لن يعودا إلى مصر. ومن خبرتي المتواضعة في الجامعات الأمريكية، أشاركه الرأي تماما. إن مصر تعيش واحدة من عصور الاضمحلال لا شك، سيضيع فيها أهل العلم الجادين، لأن العلم ليس من أولويات المصريين، حكومة وشعبا.
لقد انصرفنا عنه انصراف من يسجل الموقف ولا يبحث عن حلول عملية للمشاكل. فتعلن الحكومة التزامها بمجانية التعليم، ولكننا نعلم أنه تعليم بلا علم لأنه "خال الدسم" أي خال من القدرة على النقد والابتكار والفضول والتفكير في غير المفكر فيه. وعليه فلا بد من مجموعة علمية على المستوى الوزاري تكون في أهمية ومكانة المجموعة الاقتصادية المعنية بالاستثمار والانتاج ومكافحة التضخم والبطالة والفقر. نحن بحاجة لمجموعة وزارية علمية تعني بالاستثمار البشري، والانتاج الذهني ومكافحة تضخم الفصول والبطالة الفكرية وفقر الخيال.
القضية ليست في "ما" الذي نصدره ونستورده فقط ولكن كذلك في "من" الذين نصدرهم ونستوردهم. فمصر تصدر للخارج، وعادة بلا عودة، كل بناة النهضة من علماء ومهندسين ومدرسين وخبراء وعمال، وتستورد في المقابل أهل الدعة والسكون من لاعبي كرة القدم والمدربين الأجانب، وراقصات أوروبا الشرقية، والمغنيين العرب. فهؤلاء تشكل مصر بالنسبة لهم قبلة يجدون فيها المأوى الملائم لمواهبهم وقدراتهم فهي هوليود الشرق ومدينة ملاهي ضخمة. أما أهل العلم وبناة النهضة، فمصر بيئة طاردة لهم.
إن المهمة الأولى لمن يتولى حكم مصر ليست فقط إطعام 80 مليون مصري كل يوم كجزء من التزام الحاكم بالحفاظ على الحقوق الحيوانية للإنسان المصري وكأن المطلوب منه أن يتجنب مصير المرأة التي دخلت النار في هرة حبستها؛ وعليه فالحاكم لا يريد أن يحبس الشعب المصري عن حقه في الطعام وبالتالي هو يطعمه، إن استطاع، أو يتركه يأكل من خشاش الأرض حتى لو بالتسول أو الرشوة.
إذن مأزق سقراط – زويل، بل مأزق مصر، له أسبابه التي أعتقد أنها في رقبة القائمين على شئون الحكم. وأرفض تماما منطق أن ماضي مصر أعظم من مستقبلها حتما، وإنما هو اختيار كالكثير من قراراتنا الخاطئة في آخر 50 سنة من تاريخنا.
إذن هل من أمل؟ الأمل قائم ولكنه مشروط بنوعية القيادة التي ستحكم مصر في مرحلة ما بعد الرئيس مبارك. وتدليلا على كلامي، فسأسوق ثلاثة مشاهد ماليزية. المشهد الأول في عام 1969 حين كتب الطبيب الشاب مهاتير محمد كتابه "مأزق الملايو" والذي وجه فيه انتقادات شديدة لمسلمي ماليزيا بسبب تقاعسهم عن العمل وارتيابهم من أي ابتكار وسيطرة روح الخرافة والتفكير اللاعلمي عليهم وخوفهم المحموم من السلطة ورفضهم خلع لباس التخلف والجهل.
كان النقد قاسيا لدرجة أن طرد صاحبه من الحزب الحاكم. المشهد الثاني في عام 1981، والتاريخ لا يخلو من مفارقة تستحق المقارنة، حين تولى الرجل حكم ماليزيا فشرع في استقدام أفضل العقول وأمهرها وأحسن النماذج وأكفأها كي تتولى المناصب العليا في الدولة مع متابعة أسبوعية لأداء الوزارات المختلفة، فهو رئيس الوزراء والقائد الأعلى لكتيبة التنمية الماليزية، وقدم نموذجا ندرّسه في إدارة التنمية لحسن التخطيط وتعبئة الموارد بل و نجاحه في أن يبعث كوامن الحياة ودوافع العمل في الأمة بأسرها وفي علمائها النابغين لخدمتها.
وهو ما أصطلح عليه في أدبيات التنمية بخلق "كتلة تنموية" (developmental bloc) من أهل الخبرة والعلم وممثلي العمال وأصحاب الأعمال. ومما يروى أن وزارة التعليم الماليزية أرسلت للطلاب الماليزيين في الخارج في مطلع الثمانينيات على ألا يعودوا إلى ماليزيا إن توافرت لهم فرصة لاستكمال الدراسة والعمل بالخارج حتى يكتسبوا خبرة لأنهم لو عادوا قبل أن تبدأ عجلة التنمية الحقيقية فلن تتحقق الاستفادة الكاملة منهم. قارن ما سبق بنصيحة أحد أساتذتي الأفاضل لي عن العودة لمصر: "لو رجعت الآن هتزود التربة ميتين، خليك في الخارج أفضل."
المشهد الثالث، عام 2003 بعد أن أتم الرجل مهمته، ترك الحكم لمن يأتي بعده. لكنه ترك ماليزيا بعد أن تحولت من دولة زراعية تعتمد على انتاج وتصدير المواد الاولية إلى دولة صناعية متقدمة تبلغ نسبة صادرات السلع المصنعة 85% من اجمالي صادراتها، وتنتج 80% من السيارات التي تسير في شوارعها، وعليه انخفضت نسبة السكان تحت خط الفقر من 52% من اجمالي السكان في عام 1970 إلى 5% فقط في عام 2002.
إذن مقومات النهضة المصرية موجودة لكنها مبددة كمكونات الماكينة التي تحتاج للقائد الماهر الذي يعرف كيف يقرأ "كتالوجها" ويضع الأمور في نصابها، حيئذ لن يكون أجمل ما فيها ماضيها.