جاء رئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتنياهو إلى واشنطن شاهرا سيف الحرب على ايران على خلفية ملفها النووى. ولكنه عاد إلى القدس المحتلة مقتنعا بوجهة نظر الرئيس الأمريكى باراك أوباما بإعطاء العقوبات الاقتصادية والمالية الدولية المفروضة على إيران فرصة أخرى لإثبات جدواها وفعاليتها. فالعقوبات أمضى سلاحا من التهديدات. وإذا ثبت أن لا التهديدات ولا العقوبات كافية لمعالجة الملف النووى الإيرانى، عند ذلك يصبح اللجوء إلى القوة إجراء دوليا مشتركا وليس مجرد رد فعل إسرائيلى منفرد.
وجاء رئيس الحكومة البريطانية دافيد كاميرون إلى واشنطن شاهرا سيف التدخل العسكرى فى سوريا على خلفية الفظائع الإنسانية التى ترتكب هناك. ولكنه عاد إلى لندن مقتنعا بوجهة نظر الرئيس أوباما أيضا بأن المشكلة فى سوريا أشد تعقيدا، وانه لا بد لذلك من اللجوء إلى وسائل معقدة أيضا للتعامل معها. فهى ليست كالقضية الليبية معزولة فى ذاتها، ولكن امتداداتها تصل إلى الإستراتيجية الإيرانية فى الشرق الأوسط من جهة، وإلى طموحات الاتحاد الروسى خاصة بعد اعادة انتخاب فلاديمير بوتين رئيسا للاتحاد من جهة ثانية. فالرئيس بوتين الذى يرفض أن يعطى الشعب السورى ما رفض ــ ويرفض ــ أن يعطيه للشعب الشيشانى من حق تقرير المصير، لم يتأخر فى الموافقة على وضع قاعدة عسكرية روسية لتكون نقطة تجمع للقوات الأمريكية المنسحبة من أفغانستان. وبالنسبة للولايات المتحدة فان حاجتها إلى القاعدة يتقدم على رغبتها فى استدراج روسيا إلى موقف سياسى ضد الرئيس السورى. ذلك أن الولايات المتحدة فقدت الثقة بالباكستان. وهى تتهم المخابرات العسكرية الباكستانية بالتعاون سرا مع حركة طالبان ضد القوات الأمريكية. ولذلك فهى بحاجة إلى طريق آمن للانسحاب من افغانستان ابتداء من هذا العام كما وعد الرئيس أوباما. والطريق الآمن الوحيد هو عبر الاتحاد الروسى ومن خلال قاعدة عسكرية جوية روسية توضع فى تصرف القوات الأمريكية لتنظيم عمليات الانسحاب «المشرف».
ولا شك فى أن القوات الأمريكية فقدت الثقة فى الشعب الأفغانى نفسه، بعد أن فقدَ هو الثقة فيها على خلفية جرائم إحراق القرآن الكريم استفزازا، وارتكاب جرائم القتل الجماعية ضد القرويين الآمنين بحجة أن مرتكب هذه الجريمة فقدَ عقله، أو أن الطائرة الموجهة عن بُعد أخطأت الهدف. ولذلك فإن تبادل انعدام الثقة من شأنه أن يجعل من عملية الانسحاب خطيرة وصعبة وربما مكلفة ايضا. حتى الرئيس الأفغانى نفسه حميد كرزاى وصف الأمريكيين العسكريين الذين أحرقوا القرآن بالشياطين، وهو الوصف الذى اعتمده أيضا فى بيانه حول قصف المدنيين الأفغان «بطريق الخطأ».
●●●
ثم أن إيران تقع إلى الشرق من أفغانستان. وتتجمع فى هذه المنطقة من البلاد الأقلية الشيعية الأفغانية التى يمكن لطهران أن تحولها إلى شوكة فى ظهر القوات الأمريكية خلال عملية الانسحاب. ولتجنب ذلك كان لا بد من الدعوة الأمريكية إلى عدم استخدام القوة العسكرية ضد إيران، سواء مشاركة مع إسرائيل أو تغطية لها.
فبعد عشر سنوات من الحرب الأميركية على أفغانستان، فان البيت الأبيض يتطلع ليس إلى انسحاب مشرف فقط، بل إلى انسحاب المنتصر (خاصة بعد انجاز عملية اغتيال ابن لادن وتصفية عدد من العناصر القيادية فى تنظيم القاعدة بواسطة الطائرات الموجهة عن بُعد). ويحتاج الرئيس أوباما إلى مثل هذا الانسحاب ليوظفه فى معركته الانتخابية التى بدأت فعلا والتى سوف تتوج فى شهر نوفمبر ــ تشرين الثانى ــ القادم.
ولا شك فى أن موافقة الرئيس بوتين على وضع القاعدة العسكرية الروسية فى تصرف القوات الأميركية المنسحبة يوفر لها الطريق الآمن، ويوفر لها تاليا الحد الأدنى من مستلزمات الانسحاب المشرف. ولكن السؤال هو أى مصلحة لبوتين فى ذلك؟
للإجابة على هذا السؤال لا بد من التوقف أمام الشعارات العدائية ضد روسيا التى يرفعها منافسو الرئيس أوباما من مرشحى الحزب الجمهورى. أن وصول أى منهم: ميت رومنى، أوريك سانتوروم أو غيرغريتش إلى البيت الأبيض يعنى دفع الحرب الباردة الحالية بين موسكو وواشنطن إلى مستويات خطيرة للغاية.
ولتجنب حدوث مثل هذه التداعيات فان الحكمة الروسية اقتضت تقديم دعم غير مباشر للرئيس أوباما عن طريق توفير الطريق الآمن لانسحاب يستطيع أوباما أن يستثمره سياسيا وشعبيا فى الانتخابات الرئاسية.
ولكن لا بد للرئيس الأمريكى أن يردّ للرئيس الروسى التحية بمثلها. فكان الموقف الأمريكى «المتفهم» للموقف الروسى مما يحدث فى سوريا. ولقد ذهبت واشنطن فى هذا التفهم إلى حد يوحى بأنها لا تمانع فى أن تتولى الدبلوماسية الروسية صناعة مخرج ما للأزمة السورية أو أن يكون الكرملين وسيده، عراب هذا المخرج.
والواقع أنه عندما تحذر موسكو من انها لن توافق، ولن تسمح باعتماد السيناريو الليبى فى سورية، فانها تعلن من خلال ذلك أنها ترفض استبعادها عن أن تكون شريكا فاعلا وأساسيا فى السيناريو السورى. ومن المعروف انه بموجب السيناريو الليبى احتكر حلف شمال الأطلسى المبادرة تحت مظلة عربية (جامعة الدول العربية) ودولية (مجلس الأمن الدولى). أما بموجب «السيناريو» السورى فان الكرملين وليس حلف الأطلسى هو المؤهل لتوجيه مسار مهمة المبعوث الدولى كوفى عنان تحت المظلة العربية والدولية الجديدة.
●●●
تفرض معركة الانتخابات الرئاسية الأميركية الانسحاب المشرف من أفغانستان. ومن مستلزمات هذا الانسحاب تجنب الصدام مع الكرملين.. وخاصة فى المنطقة التى تهمّ الكرملين أكثر من غيرها، وهى سورية، باعتبار أنها بوابتها الوحيدة المفتوحة على مصراعيها إلى الشرق الأوسط.
لقد نجح الرئيس أوباما فى تبريد رأسين ساخنين. هما رأس نتنياهو الذى حصل على موافقة مجلس الوزراء الإسرائيلى المصغر بضرب إيران، ورأس كاميرون الذى، بعد أن فقدَ الأمل فى أى تسوية مع النظام السورى، يدعو إلى اسقاط هذا النظام ولو بالقوة.غير أن اهتمامات الرئيس أوباما فى المرحلة الحالية تتمركز فى الولايات المتحدة وليس فى إيران ولا فى سورية. ونجاحه فى تبريد الرؤوس الحامية يخدم اهتماماته الشخصية فى الدرجة الأولى.. ولكن بعد نوفمبر القادم ــ تاريخ الانتخابات الرئاسية ــ.. فان الوقائع تتغير وتتغير معها المعادلات، ويصبح لكل حادث حديث.