تحديات اقتصاد الحرب والانتعاش؟ - سمير العيطة - بوابة الشروق
السبت 14 ديسمبر 2024 9:42 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

تحديات اقتصاد الحرب والانتعاش؟

نشر فى : الأحد 24 مارس 2019 - 10:00 م | آخر تحديث : الأحد 24 مارس 2019 - 10:00 م

تُدمِر الصراعات الاقتصادات الإنتاجية والخدمية وتخلق الاقتصاد الخاص بها. هكذا يتشكل اقتصاد حرب قائم على تفكيك الأصول ذات القيمة وبيعها، وعلى سرقة الموارد الطبيعية، وكذلك على تجارة مستلزمات العيش بين مناطق الصراع وعبر الحدود الهشة. أضِف أن التمويل الخارجى يخلِق أيضا اقتصاد حرب استهلاكيا، خاصة عبر تمويل المقاتلين. كما يشجِع الصراع إنتاج وتجارة الممنوعات مثل المخدرات. وبالتالى يعيد اقتصاد الصراع توزيع الثروة فى البلاد ويمركزه بيد «أمراء حرب».
هكذا انغمست جميع الأطراف المتصارعة فى سوريا فى اقتصاد الحرب لتمويل سلاحها وهيمنتها. فككت بعض الأطراف معامل صناعات حلب الشهيرة وباعتها خردة عبر الحدود. ونهبت أطرافٌ الآثار السورية العريقة من المتاحف والبيوت، بل نقبت عشوائيا لتضع فى الأسواق العالمية قطعا تاريخية نادرة. واستمرت التجارة بين مناطق النفوذ رغم القتال عبر «معابر» معلومة. كلٌ يستفيد مما تسمح له به ظروف مناطق نفوذه.
هكذا لا تزال تركيا تصدر اليوم إلى سوريا حسب إحصاءاتها ما يتساوى مع صادراتها لفترة ما قبل الحرب، وتباع البضاعة التركية حتى فى دمشق تهريبا من مناطق سيطرة فتح الشام/جبهة النصرة. وتُنتجِ «قسد» النفط السورى فى حقوله وتبيعه إلى الأطراف السورية الأخرى ُحتى تلك المتحالفة مع تركيا المعادية لها وكذلك إلى العراق، وبعلمٍ ومعرفة التحالف الدولى. وقامت ميليشيات بنهب المنازل المدمرة وبيع ممتلكات الأهالى فى أسواقٍ خاصة. وتم تجميع حديد المبانى المدمرة بين الأنقاض وتسويقه. من ناحية أخرى، أضحت سوريا مُنتِجا أساسيا لمخدر الكابتاغون الذى تشاركت كل الأطراف فى إنتاجه وتجارته حتى سوقه الأساسية فى الخليج. هذا بالرغم من حجم المصادرات الكبيرة التى جرت داخل سوريا وفى دول الجوار.
من الصعب رصد حجم اقتصاد الحرب، ولكن يُمكِن تقديره عبر مقارنة أسعار المواد فى المناطق المختلفة. هكذا يُمكن رصد التفاهمات بين الأطراف المتصارعة (أسعار متقاربة) وحتى التجاذبات بين الأطراف «الصديقة» (اختلافات كبيرة فى الأسعار). كذلك يُمكن رصد أين يذهب التمويل الخارجى عبر مقارنة كلفة العمل فى المدن المختلفة. ومن هى الجهات التى يتم تمويلها بسخاء ومن تلك التى لا تحظى بأى مساعدات.
***
رغم ذلك، ما زال جزء من الاقتصاد السورى «الحقيقى» يعمل. بقيت الزراعة نشطة رغم الحرب ورغم انخفاض إنتاج المحاصيل الكبرى كالقطن والقمح. وما زالت سوريا تصدر جزءا من هذا الإنتاج بشكلٍ رسمى وغير رسمى إلى دول الجوار، خاصة العراق ولبنان. وما زالت هناك معامل تُنتِج رغم النقص الكبير فى الطاقة وصعوبة استيراد المستلزمات. وما زال هناك إنتاج للكهرباء رغم أعطاب المحطات وقلة الغاز والفيول، بل يُصدَر جزء منها إلى لبنان كى تحصل الدولة على قطعٍ نادرة. وما زال الناس يجهدون لكسب عيشهم وقوت أهلهم. فسوريا ليست دولة نفطية مثل العراق وليبيا يحصل أغلب مشتغليها على أجرٍ حكومى. ولا يكفى أصلا الأجر الحكومى السورى معيشة منتفعيه. إلا أن معظم سبل العمل اليوم فى سوريا قد أصبحت موازية وغير نظامية، لأن الدولة ومؤسساتها ضَعُفَت كثيرا حتى فى مناطق سيطرة السلطة القائمة ولأن قوانينها وإجراءاتها تضاربت حتى أكثر من ذى قبل. فى 2010، كان أكثر من 65% من المشتغلين غير نظاميين وأكثر من 30% من مساكن المدن عشوائية. فما بالنا الآن.
***
يومَ ينتهى الصراع فى سوريا ستنطرح الإشكالية الأساسية فى كيفية دفع الاقتصاد الحقيقى وكيفية كبح اقتصاد الحرب وأُمرائه، وخيارات السياسات. وسيواجه «انتعاش» ما بعد الصراع تحديات جمة كى يكون حقا «مسارا تستعيد فيه الدولة القدرة على القيام بالسياسات الاقتصادية وتنفيذها كجزءٍ من آلية ذاتية مستدامة من الحكم الرشيد»، كما تعرفه الأمم المتحدة. ليس الأمر فقط «إعادة إعمار» للعودة إلى ما سبق، بل أولا وأساسا انتعاش للحمة الاجتماعية وللحركة الاقتصادية وللإدارة الرشيدة. والأخيرة تقوم على إدارة المصالح الخاصة بحِكمة من أجل الصالح العام والعدالة الاجتماعية.
إحدى إشكاليات الوعى العام فى سوريا، كما فى جميع البلدان العربية، هو قلة التمييز بين الصالح العام والخاص على الصعيد الاقتصادى، وقلة الدفاع عما هو مال عام وحق عام، مال المواطنين جميعهم وحق المواطنين جميعهم، بالإضافة إلى الحقوق الفردية. إن أتت مساعدات لسوريا بصيغة منح فهى مال عام، وإن أتت قروض فهى أيضا مال عام وعبء على أجيال من السوريين، وإن أتت استثمارات فسيدفع أيضا السوريون كلفة استرجاعها مع الأرباح. وإن كانت استثمارا لاستغلال موارد طبيعية، نفطا كانت أم أرضا عمومية للبناء، فهذا أيضا حق عام لجميع السوريين تتم خصخصته.
لكن التجربة التاريخية وأمثلة ما حدث بعد الصراع فى الدول المجاورة كالعراق ولبنان قد تدفع نمو هذا الوعى كى لا تكون إدارة ما بعد الصراع تقاسما للسلطة بين أمراء حرب لخنق إمكانيات الانتعاش اقتصاديا وأيضا اجتماعيا وسياسيا.
لا تحتاج سوريا ما بعد الحرب إلى مئات مليارات الدولارات للانتعاش ولإعمار ما تخرب وبناء للمستقبل، بل لأقل من ذلك بكثير. هناك حاجة لمساعدة المواطنين المعيشية لفترة جراء تقلص الاقتصاد الحقيقى بشكلٍ كبير. وهناك أيضا حاجة لدعم استيراد بعض مستلزمات المعيشة والبنى التحتية للنهوض بالانتعاش، عبر آليات تأمين قطع أجنبى. ويقع العبء الباقى على الاقتصاد السورى ذاته وعلى السوريين.
إلا أن الرسائل الدولية تجاه سوريا والسوريين هى تضخيم كلفة «إعادة الإعمار» بالتوازى مع استمرار العقوبات العامة التى أُقحِمَت منذ بداية الأزمة مع العقوبات على أفراد وأدت إلى إفقار السوريين وتحويل الانتفاضة إلى حرب. والأنكى أن القوانين والإجراءات التى تؤطرها لا تضع آلية واضحة لإنهائها. والمثال قائم كيف لم تُرفَع العقوبات العامة حتى بعد احتلال العراق بسنين. سيفٌ مسلطٌ على سوريا لا ينتهى إلا عندما يرضى فرقاءٌ خارجيون كثر، لكلٍ مصالحه الخاصة، بمسار ما بعد الحرب، حتى وإن كان حلا سياسيا وفق قرارات مجلس الأمن.
كيف يُمكن لسورى أن يثق بالولايات المتحدة أنها ستُنهى يوما عقوباتها العامة على سورية والسوريين، وهى الأقسى والأكثر تأثيرا، وستقوم بشىء لصالح السوريين، وهى اليوم تحاول أن تُشرعِن اقتطاع جزء من سوريا، الجولان المحتل، رغم تصويتها بنفسها على قرار مجلس الأمن 497 الذى لا لبس فيه.

رئيس التحرير السابق للوموند ديبلوماتيك النشرة العربية ــ ورئيس منتدى الاقتصاديين العرب

 

سمير العيطة رئيس التحرير السابق للوموند ديبلوماتيك النشرة العربية ــ ورئيس منتدى الاقتصاديين العرب
التعليقات