نشرت الصحف أن شى جين بينج، الرئيس الجديد للصين، خرج إلى شوارع العاصمة بكين متنكرا فى ملابس مواطن عادى وبدون حراسة خاصة. اختار ناصية شارع خافتة الأضواء ليقف عندها وينادى على سيارة أجرة. مرت عليه سيارات أجرة عديدة لم يكلف سائقوها أنفسهم عناء التوقف لالتقاط راكب يبدو التواضع ظاهرا على ملبسه ومنظره. وفى النهاية، أشفق أحدهم على الراكب بسيط الحال وسمح له بالركوب.
فوجئ السائق بالراكب يطلب منه التجول فى حى ثم آخر. لم يكن لديه هدف معين، ولكنه وجد التبرير المناسب فى الزعم بأنه غريب على المدينة وحريص على أن يشاهد بعينيه معالم التقدم الذى يتحدث عنه الأهل والمعارف فى مدينته الصغيرة بوسط الصين. تجولت السيارة فى بعض أحياء وسط العاصمة لمدة ساعتين إلى أن طلب الراكب من سائق السيارة أن ينزله فى المكان نفسه الذى استقل منه السيارة، الناصية المظلمة فى الشارع خافت الضوء.
همّ الراكب بالنزول بعد أن طلب من السائق أن يقرأ له أجرة الرحلة، كما ظهرت على العداد. أخرج من جيبه المبلغ كما قرأه السائق وسلمه إليه شاكرا له حسن المعاملة ولافتا انتباهه إلى أنه أضاف إلى الأجرة مبلغ «32 قرشا» كبقشيش أو إكرامية.
●●●
انتهت القصة كما تناولتها بعض صحف هونج كونج، وقد حظيت بتعليقات عديدة من صحف الصين وسائط الاتصال الإلكترونية. ركزت التعليقات بطبيعة الحال على اهتمام الرئيس الجديد بالاطلاع على أحوال الناس فى حياتهم اليومية، ورغبته فى أن يتأكد بنفسه من معاناة الجماهير بسبب مشكلات البيئة المتفاقمة وزحمة المرور. إلا أن بعض التعليقات اهتمت أكثر من غيرها باحتمال أن يكون الغرض من هذه الرحلة الليلية للرئيس، وتسريب أخبارها، تأكيد نية جماعة الحكم فى مواصلة العمل على إزالة آثار الفضائح السياسية التى تكاثرت وتفاقمت فى السنوات الأخيرة، وأكثرها يتعلق بفساد بعض قادة الحزب والحكومة، وتوريث المناصب الكبرى وسيطرة رجال أعمال على مقاليد الإدارة والسلطة. قيل فى تبرير رحلة التاكسى إن الرئيس أراد هو وجماعته أن يعرف الناس أن الرئيس الجديد للدولة حريص على أن يختلط بالعامة، ضاربا المثل لبقية أعضاء النخبة السياسية وكبار رجال الإدارة والجيش لينزلوا إلى الشارع ويتعرفوا بأنفسهم على أحوال الناس.
●●●
تابعت القصة والتعليقات وأنا غير مهتم كثيرا بالمظاهرة الإعلامية التى صاحبت النشر ومحاولات رسمية فى بداية الأمر لإنكار إنها حدثت، أو على الأقل أنها حدثت، بالتفاصيل التى روتها أجهزة الإعلام. كذلك لم أهتم طويلا بخطاب الاعتذار الذى تتسم به إعلانات وبيانات حكومية عديدة عن الفساد الذى أصاب جهاز الحكم فى الصين، والتفاخر بالكفاءة التى تتعامل معها الحكومة الحالية لمواجهته. كان اهتمامى منصبا على «تفصيلة» صغيرة وردت فى القصة، وهى المعلومة المتعلقة بالبقشيش الذى تركه الرئيس لسائق التاكسى. لا أقصد المبلغ، إن كان لائقا أو غير مناسب، ولكن قصدت المبدأ فى حد ذاته، مبدأ أن يدفع الراكب بقشيشا وأن يقبل السائق استلام هذا البقشيش.
●●●
كتبت أكثر من مرة عن تجربة لى فى الصين أيام حكم الرئيس ماو، تذكرتها وأنا اقرأ قصة الرئيس الحالى «تشي» وسائق التاكسى. كنت أقضى مهمة فى حى من أحياء وسط المدينة، وعند الانتهاء منها أوقفت سيارة أجرة لتقلنى إلى حيث كنت أسكن فى حى بشرق بكين. وعند نهاية المشوار عرضت، كما عرض الرئيس، دفع الأجرة. لم يكن المبلغ كبيرا، إذ لم يتجاوز «يوان واحد» بل أقل بقروش معدودة. لم يكن مع السائق أو معى عملة معدنية تعادل الفارق بين اليوان والأجرة. دخلنا فى نقاش. نقاش بين راكب أجنبى لا يتحدث اللغة الصينية وسائق لا يتحدث إلا بالصينية. السائق يرفض أن أغادر السيارة وفى عهدته بقية حساب وأنا أحاول إقناعه أن الوقت متأخر ولن أتمكن من حل المشكلة. أنهيت النقاش بأن أخذت الإيصال بالمبلغ ونزلت من السيارة، متنازلا عن القروش المعدودة.
●●●
لم أكد أبدأ عملى صباح اليوم التالى إلا ودق الهاتف على مكتبى، وعلى الطرف الآخر السكرتيرة تبلغنى بأنها استلمت فى التو مذكرة رسمية من الحكومة الصينية «تعاتبنى لأننى تركت بقشيشا لسائق سيارة الأجرة، الأمر الذى اعتبره السائق إهانة لكرامته وتعتبره وزارة الخارجية إهانة للوطن».
●●●
ما أبعد اليوم عن البارحة!