كان شعار دونالد ترامب «لنجعل أمريكا قوية من جديد»، لكن فى نظرة إلى الوراء، أمريكا لم تسترجع قط عظمتها؟ شعار الرئيس الجديد «أمريكا تعود من جديد» – تعود من أين وإلى أين؟
أمريكا التى انسحبت من الشرق الأوسط وتخوض سباقا مع الصين الشيوعية والتى ــ بحسب النائبة السابقة لوزير الدفاع ميشيل فلورنوى ــ تخسر أسبقيتها فى مواجهة الصين حتى فى المجال العسكرى، والتى تتعرض فيها حرية التعبير لخطر «إلغاء الثقافة»، والتى تحول فيها الصراع المحق ضد العنصرية إلى تحدٍّ للكثير من القيم الأساسية التى رمزت إليها فى الماضى؛ هل «عادت» فعلا أو استعادت عظمتها؟ وهل الأمر الإيجابى فى الشعارين المذكورين أعلاه يدل على إدراك زعيمى المعسكرين المتخاصمين أن شيئا ما فى الرؤيا الأمريكية قد اضطرب ويجب تصحيحه؟
المثير للدهشة أنه فى مجال السياسة الخارجية، تحديدا المسافة بين الإدارة السابقة وبين الإدارة الحالية، أقل مما يمكن أن يتخيله المرء. يبدو أن الخطوات التى قام بها ترامب لم تكن كلها سلبية. ففى مؤتمر الدول السبع للدول الصناعية الذى عُقد فى بريطانيا، وأيضا فى مؤتمر حلف شمالى الأطلسى، لم تُتخذ قرارات مهمة تتعارض مع خط إدارة ترامب. حتى إن الخط المتشدد لبايدن إزاء الصين هو استمرار مباشر لخط إدارة ترامب.
صحيح أن الأجواء فى الاجتماعين كانت مختلفة عن الأجواء التى خلقها ترامب، «فالطريقة الودية التى تعامل بها بايدن مع الرئيس إيمانويل ماكرون ومع أنجيلا ميركل، بعكس علاقات ترامب، خلقت تحسنا إيجابيا، لكن فى موضوعات محددة، وخصوصا فى موضوع الصين، تبين أن سياسة ترامب كانت بعيدة المدى وحاسمة».
أيضا «اتفاقات أبراهام»، ثمرة المبادرة السياسية لبنيامين نتنياهو بمساعدة مهمة من ترامب، تحظى بتأييد إدارة بايدن ــ ليس فقط رغبة فى الدفع قدما بالسلام الإسرائيلى ــ العربى، بل أيضا من أجل خدمة مصلحة الولايات المتحدة وتواجدها العسكرى فى الشرق الأوسط. فى هذا السياق يجب التذكير بالانعطافة الإيجابية فى علاقة الإدارة الأمريكية بالسعودية، وإزاء مصر التى عادت إلى مكانتها السابقة كشريك إيجابى.
لكن الفارق الأكثر أهمية بين الإدارتين هو فى موضوع الاتفاق النووى مع إيران، الذى تصر إدارة بايدن على العودة إليه بحسب صيغته الأصلية. الانتقادات فى إدارة بايدن وفى أجزاء من المنظومة الإسرائيلية، والتى تقول إن سياسة ترامب لم تحقق هدفها لا بل قرّبت إيران من السلاح النووى، نابعة من دوافع سياسية وديماغوجية أكثر مما هى نابعة من تقدير حقيقى للوضع، وما جرى هو سياسة توقفت نتيجة تبدُّل السلطة فى البيت الأبيض قبل أن تؤتى ثمارها الكاملة.
الاختلاف فى الآراء بين إدارة بايدن وبين إسرائيل لا يقتصر فقط على المسألة النووية، بل يشمل أيضا مشاريع عسكرية أُخرى لطهران؛ بينها صواريخ بعيدة المدى، ونشاطاتها فى سوريا ولبنان، وتطلعاتها نحو الهيمنة على المنطقة. خلال ولاية نتنياهو نجحت إسرائيل بفضل عملياتها العسكرية ومهارتها الدبلوماسية فى كبح جزء كبيرة من التوجهات الإيرانية، فكيف ستتصرف الآن؟
الكرة المشتعلة الثانية المحتمَلة هى الموضوع الفلسطينى. فى الأساس لم يكن لدى إدارة بايدن رغبة فى الانزلاق إلى هذا المستنقع، لكن فى أعقاب الأحداث الأمنية الأخيرة هناك دلائل على أن هذا التوجه يمكن أن يتغير. أحد أسباب ذلك هو الضغط الذى لا يتوقف من اليسار المتطرف المعادى لإسرائيل فى الكتلة الديمقراطية فى الكونجرس.
من بين الدلائل الأخيرة على ذلك الحديث الذى جرى بين وزير الخارجية الجديد يائير لابيد وبين وزير الخارجية الأمريكية بلينكن. فقد أعلنت إسرائيل أن البحث تناول مجموعة من المسائل، لكن الناطق الأمريكى كان أكثر اقتضابا، إذ قال: «جرى الحديث عن الحاجة إلى تحسين الوضع الفلسطينى»، والتلميح واضح. كيفية التعبير عن الفوارق فى التوجهات لا تعود فقط إلى الإدارة الأمريكية، بل أيضا وفى الأساس إلى قدرة الحكومة الجديدة على تجاوُز تناقضاتها الداخلية والشلل الكامل الذى أصابها.
زلمان شوفال
عضو كنيست سابق
معاريف
مؤسسة الدراسات الفلسطينية