غداة استشهاد 1300 مدنى سورى على الأقل، نصفهم من النساء والأطفال، فى الغارات التى شُنّت على غوطة دمشق الشرقية ليلة العشرين من أغسطس، والتى استخدمت فيها مواد/أسلحة كيمائية بدت آثارها واضحة للعيان لكل من تابع مئات الصور والأفلام، ولكل الوحدات الطبية المتطوعة العاملة على الأرض، توالت تصريحات دولية متعددة اللهجات.
فمن القلق الدائم المستجد لأمين عام أمم متحدة فى العجز السيد بان كى مون، إلى الصدمة المرتبطة قبل كل شىء بالتأكد من الوقائع من قبل رئيس وزراء بريطانيا العظمى فى انحيازها لذاتها، إلى مطالبة عديد من رؤساء الدول الأوروبية بأن يقوم الخبراء الأمميون الموجودون فى دمشق، بزيارة موقع الحدث والتأكد مما حصل.
ويعرف أصحاب مثل هذه التصريحات بأن هؤلاء الأمميين موجودون بناء على اتفاق دولى دقيق يقضى بزيارة ثلاثة مواقع اختارها النظام للتحقق فقط من استخدام غاز السارين فيها وليس أبدا لتحديد من استخدمها.
وبالتالى، فمهمة السادة الكرام لا يمكن أن تتعدل بناء على النيات الطيبة للرئيس الفرنسى أو نظرائه العارفين بأن تغيير طبيعة المهمة يحتاج إلى موافقة مجلس الأمن. إن التصريح بهذه الخفّة بأمر جلل ينمّ إما عن مستوى عالٍ من الجهل بطبيعة المسار الأممى وتعقيداته أو أنه مجرد نفاق يُرجى منه تسجيل موقف والتغطية على العجز المستدام.
وبالطبع، فلم يكن لهذه التصريحات أى تأثير فى نتائج اجتماع مجلس الأمن بعد منتصف ليل اليوم ذاته، حيث عارض المندوبان الروسى والصينى أى تعديل فى مهمة المفتشين الأمميين، رادّين بذلك، وبصفاقتهم المعهودة والتى يجب أن تدرّس فى المعاهد الدبلوماسية، على تصريحات المسئولين الأوروبيين غير المسئولة والتى اعتبروا بأن زيارة المواقع فورا ستساعد على توضيح الحقائق.
●●●
حتى تاريخه، تُشير وثائق الأمم المتحدة إلى ثلاثة عشر حادثة «كيمائية» تمت الإشارة إليها من قبل المعارضة السورية بمختلف مكونّاتها المدنية والطبية والعسكرية. ولكن ما سبق، وبتبريرات بيروقراطية دبلوماسية غربية، كان على مستويات غير ذات أهمية. فموت بين 50 و100 مدنى لا يمكن أن يستدعى ردود فعل تقطع إجازات المسؤولين الصيفية أو تُحيدهم عن الاهتمام بأمور أكثر فداحة تحيق ببلدانهم العابرة للأزمات الاقتصادية.
اليوم، الرقم أضخم، وهو يتجاوز الألف، والألف عند الحديث عن الموت هو رقم مهم. فكما دراسات التسويق أشارت إلى أن تسعير السلع بمبلغ 999.99 هو أنجع لإقناع المشترى بأنه لا يدفع ثمنا غاليا، يبدو بأن خبراء الموت أو القتل أو الإبادة الجماعية نهلوا من نفس المناهج بحيث كانوا يسعون دائما إلى عدم تجاوز الألف فى «إنجازاتهم».
مع تجاوز السقف المتسامح معه فى واقعة واحدة، يبدو بأن من أقدم على هذا يُحاول أن يمتحن عجز مجتمعٍ دولى متسامح مع الموت، خصوصا إن لم يكن يمسّه بشكل مباشر. فالحديث عن الخطوط الحمر وعدم تجاوزها من قبل رئيس أمريكى هو الأكثر ترددا فى تاريخ أمريكا الحديث الذى لا قديم له، يُقصد به، على ما يمكن أن يُستنتج، هو أن استخدام هذا النوع من الأسلحة محرّمٌ ليس ضد المدنيين السوريين، بل ضد الجيران وخاصة من منهم الأولى بالمعروف لدى البيت الأبيض، أى الإسرائيليين.
ولا أدلّ على ذلك، التأخر الملحوظ فى ردة فعل هذه الإدارة، وصدور تصريح مسائى يعبّر عن «القلق الشديد». وهذا إن دلّ، فهو يدل على التخبّط إزاء ما يمكن أن يقوله أصحاب الخطوط الحمراء، والتى وللصدفة البحتة، جرى الحديث عنها فى مثل هذا اليوم من عام 2012.
●●●
ولكن، لنتذكر مضمون هذا التصريح السابق، فالرئيس أوباما حذّر حينذاك بأن «استخدام السلاح الكيماوى سيشكل خطا أحمر تجاوزه يمكن أن يستتبع ردود فعل دولية مباشرة». وهو وفىٌ على العهد، فردود الفعل الدولية المباشرة حصلت، بعد الهجمة الرابعة عشر وبعد أن سجل رقم الضحايا مستوى قياسى فى العرف التسويقى.
فقد عبر الكثيرون عن امتعاضهم، والأكثر عن قلقهم، وأكثر من هؤلاء كلّهم عن اشمئزازهم، وربما ذهب بعضهم من ذوى النفوس الرقيقة إلى الشعور بالغثيان أو الدوخة، مما يستتبع تدخل وحدات صحية طارئة فى أماكن عملهم الوثيرة فى عواصم العالم الحر والديمقراطى جدا. هم معنيون بالفعل إذا بما يصرحّون به وبما يتوعدون به وبما يحذرون منه. إنها كيمياء الموت.