مصر بين الإيمان والإلحاد - أحمد عبدربه - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 8:50 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مصر بين الإيمان والإلحاد

نشر فى : الأحد 24 أغسطس 2014 - 8:05 ص | آخر تحديث : الأحد 24 أغسطس 2014 - 8:05 ص

يقول بعض المهمومين بالأمر إن هناك تزايدا ملحوظا فى نسبة الإلحاد بين المصريين وخاصة من الشباب فى الآونة الأخيرة. وبدأ عدد كبير من هؤلاء فى البحث عن أسباب الظاهرة ومحاولة إيجاد حلول لها. مؤخرا دخلت مؤسسات الدولة الدينية على الخط ونسبت بعض الصحف إلى الأزهر الشريف مشروعا «لمواجهة الإلحاد» عن طريق تنظيم حملات «للقضاء على الإلحاد»، ونسب أيضا إلى بعض رجال الدولة مباركتهم لهذا العمل.

•••

ليس صحيحا أن قضية الإلحاد دينية أو كهنوتية لا تناقش إلا بواسطة علماء الدين ورجاله، ولكنها قضية سياسية بالأساس لأنها تتقاطع مع خطوط تماس قضايا كثيرة أخرى كحرية العقيدة والتعبير وموقع الدولة من المساحات الخاصة واستخدام الدين كوسيلة للحشد والتعبئة إلى آخره من قضايا حساسة مكررة فى تاريخ الأمم الآخذة فى التحول. وبناء عليه تسعى هذه السطور إلى محاولة الاشتباك مع القضية من ناحية سياسية وتاريخية وثقافية بحتة بعيدا عن المساحات الدينية التى لا يتخصص فيها كاتب هذه السطور.

أولا: لست واثقا مما إذا كانت الظاهرة الإلحادية قد تزايدت حقا مؤخرا؟ ولم تتح لى فرصة قراءة أبحاث منهجية توثق الأمر، لكنى أميل إلى الاعتقاد بأن الزيادة فى عدد الملحدين المصريين ربما تكون معقولة أو حتى أقل إذا ما قورنت بالزيادة المطردة فى أعداد الملحدين حول العالم، ولكنى أعتقد أن انتشار وسائل التعبير والتواصل الاجتماعى مع تزايد مساحة الحريات التى أتاحتها ثورة يناير قد جعل عددا من الملحدين صمتا أن يلحدوا علنا، أو أن يعبروا عن التحول فى معتقداتهم الدينية بشكل أكثر حرية.

ثانيا: التعامل مع «الإلحاد» على أنه مرض يجب «القضاء عليه» بحسب التصريحات المنسوبة لبعض رجال الدولة ورموز المؤسسات الدينية خطأ كبير، فالإلحاد أو اللادينية هى من قضايا حرية المعتقد التى نص عليها الدستور المصرى فى ٢٠١٤، وليس مطلوبا من العلماء ورجال الدين أن «يقضوا عليه» لأن هذا بطبيعة الأمور سيولد رد فعل سلبى لدى قطاع كبير من الشباب. وبدلا من ذلك يمكن للعلماء إيضاح بعض القضايا المتلبسة أو الغامضة دينيا، والإجابة على الأسئلة الصعبة التى يوجهها الكثير من الشباب لهم ولا يجدون إجابات محددة غالبا على طريقة «لا تناقش ولا تجادل»! فالنقاش الصريح الجرىء مع الشباب هو وحده القادر على التعامل مع الظاهرة، أما سيطرة الكهنوتية والمسحات المقدسة عند التعامل مع الأسئلة التى يفرضها تطور العصر ونمو العقل لدى الشباب نتيجة للحداثة والتقدم، فلن يودى إلا إلى المزيد من عدم الثقة بين الطرفين.

ثالثا: لماذا تتدخل الدولة فى هذه القضية؟ للأسف تدخل الدولة المباشر أو غير المباشر فى هذا الأمر يعود بنا إلى نظرية سياسية قديمة ترى أن للدولة «وظيفة عقيدية»، ومع احترامى لنبل هدف النظرية حيث ترعى الدولة العقيدة وتحرسها، إلا أن التطورات الكثيرة الحادثة فى العالم الآن قد جعلت الأمر معقدا، فالدولة أصبح بداخلها عشرات المعتقدات والتحيز لحماية عقيدة على حساب أخرى غير مقبول لمجرد أن المعتقدين بها أكثر عددا! كما أنه لا يمكن أن ندعى أن الدولة ستحمى كل المعتقدات لأن بعضها ببساطة يناقض البعض الآخر! والأهم من كل ذلك أن الدولة فى النهاية لن تحمى العقيدة بشخصيتها الاعتبارية ولكن ببساطة ستحميها عن طريق نظام سياسى، به ساسة ورجال دولة لديهم أجندات ومصالح وشبكات سياسية معقدة، وهو حتما (وقد كان بالفعل فى التاريخ) مدع لتحويل «حماية العقيدة» من هدف روحى سامى إيمانى إلى أداة للتعبئة السياسية، ومن هنا كان النفاق الدينى وكبت الحريات التى تنتهى (وقد انتهت بالفعل فى تجارب مشابهة) بموجة إلحاد أكبر!

•••

رابعا: بدلا من أن يسعى علماء الدين ورجاله إلى «مكافحة» الإلحاد عليهم أن يكافحوا ذواتهم ومؤسساتهم ومواقفهم وتراثهم أولا! فالإلحاد بجانب أنه موقف يعبر عن خبرة وإدراك وإيمان صاحبه الخاص، فهو أحيانا يكون رد فعل لتراث غير منقح ومتناقض حتى أحيانا مع النصوص المقدسة! انظروا فى تراثكم ونقحوه أولا، انظروا فى مناهجكم وعدلوا فيها بجراءة ما يتناقض مع عدالة وسماحة الأديان، راجعوا خطبكم البالية التى تدعى ليل نهار على «اليهود والنصارى» هكذا ببساطة ودون تمييز فى افتئات صريح على معتقدات الآخرين وحقهم كمواطنين فى العيش بسلام نفسى قبل أن يكون جسدى فى هذا البلد، ثم أخيرا ابعدوا أنفسكم عن السياسة التى لوثت بعضكم وجعلته ليس أكثر من كاهن للسلطان مما افقد بعض الشباب الثقة فى كلامكم وتفسيراتكم ولم تعد الأمور واضحة إن كانت القدسية للنصوص أم للتفاسير أم أضحت لكم أنتم شخصيا؟

خامسا: ليست الحداثة خيرا أو شرا، ولكنها تعبير عن تطور بشرى استطاع أن يطوع الطبيعة بشكل كبير مقارنة بالعصور السابقة، وهى العصور التى شهدت نزول الوحى وانتشار الأديان السماوية منها والوضعية. ومن هنا تأتى المعضلة التى يرفض كثيرون التعامل معها بشجاعة وهى قضية التفسير! فكيف نعتمد بشكل حصرى على مفسرين من قرون مضت فى ظروف اجتماعية وثقافية واقتصادية مغايرة؟ التفسير والفتوى من علماء عاشوا فى القرن الرابع الهجرى هى تعبير عن اجتهاد عقولهم التى تطورت بدرجة ما متأثرة بطبيعة وظروف ومعطيات هذا القرن، فكانت مخرجاتهم (تفسيراتهم) تعبيرا عن هذه التفاعلات المعقدة، فلماذا نعتمد هذه التفاسير بشكل حصرى ونرفض تطويرها ونحن الآن على بعد أكثر من ألف عام؟ لقد شهدت عقولنا وعقول الأجيال الأصغر تطورات رهيبة على مدى القرون الماضية تزايدت بشدة مع عصر السماوات المفتوحة، فكيف نجبرهم على تجرع منتجات واجتهادات لا تعبر عن معطيات عصرهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية.. إلخ؟

سادسا: ما هو الضرر الذى يقع على الدولة من الإلحاد؟ أو من تغيير العقائد بشكل عام؟ هل هناك مثلا دراسة علمية موثقة تربط بين ارتفاع نسبة المؤمنين فى دولة ما وبين زيادة انتاجية هذه الدولة؟ أو بين زيادة نسبة الملحدين أو غير المؤمنين وبين زيادة معدل الجريمة أو الاغتصاب أو التحرش «لا قدر الله»؟ وضع حدود للدولة لا يجب أن تتجاوزها عندما يتعلق الأمر بالمساحات الشخصية، ليس دفاعا عن الإلحاد أو هجوما على الإيمان، ولكنه محاولة لمنع الساسة من التحالف مع علماء الدين ورجاله لتأميم المساحات الشخصية وتحويلها إلى قرابين موجهة إلى السلطة، وهو الأمر الذى يدفع الناس دفعا إلى الكبت أو النفاق أو الاغتراب وكلها أمراض مجتمعية قضت على دول كثيرة قبلنا فلماذا نصر على تكرار المعادلة؟

•••

أتذكر تلك الأيام حينما ذهبت قاصدا الدراسة إلى إحدى الدول الشرق آسيوية ولم يكن بالجامعة سوى خمسة طلاب مسلمين منهم كاتب هذه السطور، وعندما وجد عميد الكلية التى ندرس بها، وهو بالمناسبة شخص لا دينى، أننا نصلى فى الطرقات، فقد أمر بتخصيص إحدى الغرف لنا خصيصا لأداء الصلاة ونحن مجرد خمسة من عدة آلاف طالب وطالبة! وقد ظلت الغرفة كذلك لسنوات حتى غادرت الجامعة، وقتها فهمت أن التقدم والتحضر والعدل والحرية والأمانة لا تتحقق على أيدى المؤمنين وحدهم، لكنها تتحقق أيضا بواسطة البشر والمواطنين المؤمنين بها والمنحازين للإنسانية ولحقوق كل البشر الذين خلقهم الله حتى وإن كان بعض هذا البشر لا يؤمن به! فهمت أن الدول التى تستمد شرعيتها من ادعاء التدين والإيمان قد تكون أكثر خطورة على كل قيم التسامح والسلام والعدل والحرية، لأن تدينها يكون فى الأغلب أدوات للحشد والتعبئة والتسويق السياسى على حساب الدين نفسه وقدسيته. فهل نضع الحدود أم نكرر أخطاء التاريخ؟

أحمد عبدربه أستاذ مشارك العلاقات الدولية، والمدير المشارك لمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة دنفر