الشعور بالوحدة مؤلم - جميل مطر - بوابة الشروق
السبت 21 ديسمبر 2024 6:15 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الشعور بالوحدة مؤلم

نشر فى : الثلاثاء 24 أغسطس 2021 - 8:45 م | آخر تحديث : الثلاثاء 24 أغسطس 2021 - 8:45 م
كنا أربعة. سمراء وشاهر وهيفاء وفادى. تربط الأربعة صداقة منذ زمن طويل. اجتمعنا كعادتنا لنناقش أمرا يشغل واحدا أو أكثر من الأربعة. لاحظنا منذ فترة غير قصيرة تواتر الحديث بين الأصدقاء عموما عن الشعور بالوحدة. بدأت الشكوى من جانب أعداد بسيطة ومع الوقت تصاعد العدد. حالة الشعور بالوحدة بطبيعتها حالة فردية إلا أنها دخلت فجأة وبدون مقدمات مرحلة تكاثرت فيها حتى كادت تنافس حالة الوباء المنتشر، تنافسه فى سرعة انتقالها من فرد إلى آخر ومن حى إلى حى ومن مجتمع محلى إلى آخر.
افتتح فادى الحوار بكلمة قصيرة «أكرر تمنياتى بصباح كالورد فى تفتحه وإشراقه وكالفل فى نشر عبيره. أعترف مقدما أننى وجهت الدعوة لانعقاد مجموعتنا فى وقت تعددت فيه دواعى القلق. لفت اهتمامى بصفة خاصة الدواعى التى تتصل من قريب بطبيعة هذه المجموعة التى تضمنا وتحمينا وتقوى سواعدنا ضد حملات زمن يكشر كل يوم عن أنياب جديدة. أرى، ولا شك ترون ما أرى، أرى أجيالا تتهاون فتقدم تنازلا بعد آخر. أرى الصحة العامة تتدهور وفيروسا يكاد يهيمن وعائلات تتفكك وقيما ومبادئ تذبح ذبحا أو تشنق شنقا فى الساحات العامة. أراهم، وهم كثيرون ومتعددون، يضللون النساء بمعسول الكلمات والظلم فى الصدور مخبأ وفى المكنون مستقر. أرى وترون ما لن يتسع لمناقشته وقت هذا اللقاء فتعالوا نركز على ما دفعنا إلى التبكير باجتماعنا. تعالوا نتحاور حول شعور نعرفه ينتابنا منذ كنا نخطو أولى خطواتنا نحو الاندماج فى مجتمع الكبار، شعور حاولنا ألا نترك له فرصة لينقض منها على روح الانطلاق التى وثبت بنا لتلقى بنفسها وبنا إلى معترك الحياة. إنه يا أصدقائى الشعور بالوحدة، يغزو حياتنا كالوباء يتحور بين الأحيان كفيروس الكوفيد ليضرب ضربته المباغتة. لا يترك بيتا إلا وفيه متألم أو متضرر».
•••
سمراء: حسنا، سامحونى إن كنت كعادتى أتدخل دون استئذان. هذه طبيعتى كرفاق تعرفونها، وتعرفون هذه الأنا المهيمنة التى لا تلين أو تستكين. حاولتم، أو حاول بعضكم وغيركم، تطويعى أو كما شاء القساة قلوبهم أن يطلق عليها محاولات تهذيبى. تعرفون، وكنتم قريبين منى، أن الفشل كان من نصيبهم، حتى جاء يوم مقيت وجدت نفسى فيه أجلس فى غرفة مظلمة ويدى تسند رأسى التى تركت خدى يستلقى على راحة يدى، وعيناى معلقتان بشباك غرفتى تنفذان ببصر لا تحركه إرادة أو وعى فى ظلام يمتد فى داخل ظلام أشد عتمة ومن بعدهما ظلام اختفت نهايته. رأيت ليلتها الظلام فى أسوأ صوره، رأيته ساكنا كالموت، حسب ما ظننت وسمعت. رأيته ظالما وقاسيا وشريرا كليالى السجن، كما وصفته شهادات المظلومين والأبرياء. رأيته غبيا وبليدا وعاطلا كلوحة لم يخط الفنان على صفحتها خطا أو كصفحات كراسة امتحان سلمها تلميذ للممتحن ولم يكتب عليها حرفا. أيها الرفاق، يومها وأيام تالية عشت تجربة الشعور بالوحدة. أنا الشخص الذى لا تلين له قناة ولا تستكين عنده إرادة، هزمنى وهزم عائلتى شعورى بالوحدة. فرق بينى وبين زوجى وبينى وبين أولادى...
•••
فادى: أين كنا يا سمراء عندما تمكن منك هذا الشعور حتى هزمك؟ من المستحيل أن تكون الهزيمة لحقت بك وأنت عضو فى هذه المجموعة. تذكرين أن الفضل فى إنشائها وتسييرها يعود إليك. نعم عرفناك فتاة صلبة. أشهد بأنك ازددت نضجا بوجودك معنا. كلنا كما تعرفين نضجنا معا. كنا شهودا على كل تجربة دخل فيها فرد من الأربعة. كانت تجاربنا الفردية دروسا لنا جميعا. هل أذكركم إن كنتم نسيتم. ألم يدخل كل منا تجربة حب. تعلمنا فيها ومنها الكثير. تعلمنا مثلا أن تجارب الحب لا تتشابه ولا تكرر نفسها. كنت يا سمراء أول من وقعت فى الحب. نعم.. وقعت حرفيا. صحيح أن معظم الثقافات قررت أن الإنسان لا يدخل طواعية فى علاقة حب وإنما يقع فيه. أنت وقعت فى الحب. رأيناك وكنا نقف من حولك وأنت تتقافزين مرحا وسعادة. كنت ملاكا أحيانا بأجنحة وأحيانا بدون. أحيانا بعقل وكثيرا بدون. كنت كريمة فى عطائك وأحيانا إلى حد السفه، اعذرى المبالغة. وإلا كيف أصف إقبالك على احتضان الناس وإصرارك على الانشغال بحل مشاكلهم والاندماج فى حياتهم. كنا إذا أردنا فرحا لجأنا إليك وإذا سمعنا ما يكدرنا أو يزعجنا أشفقنا عليك من رذاذ الكآبة فابتعدنا. كم من المرات غضبت لأننا ابتعدنا فأغرقتينا بفيض حبك وسعادتك حتى شفينا من الكدر والحزن. عرفنا نوعا من الحب من تجربتك. كان الأحلى والأغنى. هل أقول الحق يا سمراء؟ ما زلت غير مصدق أن يصيبك أنت بالذات الشعور بالوحدة فتعيشين فى ظلام موحش ولو للحظة.
•••
هيفاء: أنا مثلكم فأنا منكم. معكم تعلمت عن الحياة والحب أكثر مما تعلمت فى مكان آخر أو مع مجموعة أخرى. دخلت تجربة حب كبرى ودخلت تجربة صداقة كبرى. من التجربتين عرفت عن الرجل ما لم أكن أعرف، فقد نشأت فى بيئة تمجد الرجل بحسناته وسيئاته. لم أعرف الرجل على حقيقته كاملة إلا من خلال هذه المجموعة. أفادتنى تجربة الصداقة فى معرفة الرجل أكثر مما استفدت من تجربة الحب. لعلمكم صورة الرجل فى الحب محسنة وتعرضت للتجميل أى ليست انعكاسا أمينا لحقيقته. أنا أحب فأنا أرى رجلا من صنع خيالى أو من صنع قلبى. وبالمناسبة صورة الرجل فى الحب غير صورة الرجل نفسه فى الزواج. الزوج فى غالب الأحيان يظهر فى الصورة أقل وسامة وحكمة وذوقا وخلقا من صورته فى زمن الحب، صدقونى إذا قلت إن كلاهما أقل كثيرا وفى كل شىء تقريبا من صورة الرجل الصديق. أنا مثلا أطمئن للرجلين فى مجموعتنا أكثر من اطمئنانى لرجال آخرين دخلوا حياتى من أبواب أخرى غير باب الصداقة. أعرف أن لا أحد أصابه الشعور بالوحدة وكان يمارس الصداقة بكثافة وحب. صديقتنا السمراء غابت عنا لفترة سافرت خلالها لتقع فى حب رجل لا يستحق شرف ومتعة وطلاوة وطهر الحب، ها هى تعانى من آلام ضياع وتوهان، لا تصيب إلا من يشعر بالوحدة. تشعر بها فى وجوده. تقول كم تمنت لو اختفى ففى حضوره يزداد الألم.
•••
شاهر: أشكر الظروف التى أنقذتنى من ويلات هذا الشعور الأليم، فأنا أخشى الظلمة التى تخفى كل أمل فى الحياة. أخشى من يوم يمسك فيه هذا الشعور بتلابيب تفكيرى وسلوكياتى، مثل أن أمشى فى طريق مزدحم لا أرى فيه وجوه الناس، لا أسمع من حولى كلمات وإنما صراخا. لا أهتم بالقريبين ومنهم الزوجة وأولادها. القلب فاقد الحب قلب عاجز، والعقل فاقد البوصلة عقل تائه. الشعور بالوحدة مؤلم. أحمد الظروف التى لم تجعلنى مشهورا، فالشعور بالوحدة اكتسب سمعة الالتصاق بالشهرة. رأينا الألم يقطر من فتاة أمريكية تشعر بالوحدة بعد سنوات من الاستمتاع المتواصل بمراتب بطولة الجمباز وأخرى يابانية تبحث عن علاج لحالتها النفسية المنهارة بينما كانت عند القمة بطلة فى لعبة التنس. كانت ملء السمع والبصر. قرأنا عن سياسيين وعظماء فى التاريخ عاشوا عقودا فى القمة وهم فى واقع الأمر محطمون عصبيا ونفسيا. احتار المؤرخون فى تحليل تصرفات القادة التاريخيين الذين أصابتهم علة الشعور بالوحدة، لا أهل يحنون إليهم أو يهتمون بهم ولا شعب أتى بهم يتوقون إلى صحبته والعيش فى وسطه بينما تشاء إرادة القوة والعظمة أن تحمله وتصعد به ليعيش، فى داخل نفسه، يعيش منفردا حتى النهاية فى مكان ما عند القمة.
•••
هيفاء. لن أطيل فقد انتهى الوقت المخصص لحوار الليلة. تعلمت شيئا هاما اليوم. تعلمت أن لا أحد محصن ضد الشعور بالوحدة. نحن أيضا ننجذب إلى عالم الشهرة بسبب نجاحاتنا الفردية وإنجازاتنا كفريق. كذلك صرنا نحن الأربعة محسوبين على قوائم الواقعين فى الحب فتجاربنا شاهدة علينا ولكل منا فى حبه خيبة أمل، ثقيلة مدوية لواحد منا وخفيفة ومحتملة للباقين. ننجح فى حياتنا ونفشل فى الحب. ومع كل خيبة حطت علينا أزمة ثقة فى النفس أخذت شكل شعور مرضى بالوحدة. ومع ذلك فحالنا أحسن من كثيرين. الصداقة القوية التى ربطتنا قللت من مرات الإصابة وخففت من وقعها وأعادتنا إلى الفريق مستفيدين من تجربة جديدة. الآن من منكم مستعد أن يسعد بصحبتى فيحملنى معه فى سيارته إلى حيث أسكن. هكذا نتفادى معا الانفراد بالذات خلال رحلة العودة إلى مسكننا، فالذات منفردة ليست دائما الرفيق الأمثل فى كل الرحلات، ومنها رحلة الحياة.
جميل مطر كاتب ومحلل سياسي