يبدو أن رشق صورة محمود عباس بالأحذية فى شوارع غزة والغضبة العارمة التى اجتاحت العالم العربى والإسلامى بل المجتمع المدنى العالمى على اتساعه.. يبدو أن هذه الغضبة قد أثارت فى نفوس الحكام العرب رعبا أشد من صورة صدام حسين وهو فى حبل المشنقة!
فما حدث فى مجلس حقوق الإنسان فى جنيف يوم 15 أكتوبر من وقفة عربية صامدة وموحدة ترفض كل الضغوط حتى رجاء فرنسا بمنحها ساعتين اثنين للرجوع إلى باريس، قد أثار دهشة المراقبين. انقسمت كل المجموعات الأخرى على نفسها ــ فمن المجموعة الأوربية.. امتنع البعض وتغيب البعض عن التصويت وأيدت القلة القليلة.. ومجموعة الدول الخمس الدائمة لم يكن لها موقف موحد أيضا ــ فقد أيدت الصين روسيا القرار وامتنعت فرنسا وبريطانيا عن التصويت وعارضته الولايات المتحدة.. وحتى المجموعة الإسلامية فقد فقدت بعض الأصوات نتيجة للضغوط الأمريكية.. مثل أصوات كازاخستان والكاميرون والجابون والبوسنة.. وظلت المجموعة العربية صامدة. فما الذى حدث لهذا الفأر الذى زأر؟! لقد سمعت الحكومات هدير الغضب الشعبى العارم الذى ينذر بيوم لا مرد له، سقطت كل الحجج المضحكة التى ساقتها السلطة الفلسطينية كمبرر لطلب التأجيل.. الحفاظ على عملية السلام.. ضمان الإجماع..
الضغوط الخارجية.. أخطاء المستشارين، وتم تشكيل لجنة تحقيق لمعرفة من المسئول عن اتخاذ قرار التأجيل!
المهم لقد صدر القرار.. فهل فُتح الطريق إمامنا لكى نسوق قادة إسرائيل إلى المحكمة الجنائية الدولية؟
ثلاث جهات فقط تستطيع تحريك الدعوى أمام المحكمة الجنائية الدولية.. وهى الدول الأطراف فى النظام الأساسى المنشئ للمحكمة ومجلس الأمن والمدعى العام.. ولكن بشرط أن تكون الجريمة وقعت فى أراضى دولة من الدول الأطراف فى الاتفاقية أو أن يكون المتهم يحمل جنسية دولة طرف ــ وكلا الشرطين لا ينطبقان على إسرائيل فهى ليست طرفا فى النظام الأساسى للمحكمة.
والاستثناء الوحيد هو الممنوح لمجلس الأمن الذى يستطيع أن يحيل حالة ما إلى المحكمة حتى ولو كانت الدولة المعنية ليست طرفا فى النظام الأساسى مثل ما حدث فى دارفور وهذا يكاد يكون مستحيلا بالنسبة لإسرائيل.
إذن، فلم هذا الاهتمام الشديد من جانبنا والذعر الكبير فى إسرائيل؟
حالة الاهتمام والذعر لأن هناك عدة دول تأخذ الآن بنظام الاختصاص العالمى ــ من بينها 12 دولة أوروبية، أى أن القانون الداخلى لديها يحتم محاكمة المتهمين بجرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية إذا وجدوا على أراضيها، بغض النظر عن مكان ارتكاب الجريمة.. وقد تشكل اتحاد عالمى من خمسين جمعية حقوقية عالمية لملاحقة قادة إسرائيل ورفع دعاوى قضائية ضدهم أمام المحاكم الأوربية استنادا لتقرير جولدستون.
كما أن جولدستون لم يكتف بالمحكمة الجنائية الدولية بل ذكر أن إسرائيل خالفت أيضا اتفاقيات جنيف الأربع، خاصة الاتفاقية الرابعة الخاصة بحماية المدنيين فى زمن الحرب.. التى تلزم الدول الأطراف بموجب المادة 146 بأن «تبحث عن الأفراد الذين ارتكبوا خروقات خطيرة لهذه الاتفاقية وتقدمهم للعدالة أمام محاكمها بغض النظر عن جنسيتهم». كما أن اتفاقية مناهضة التعذيب والمعاملة اللا إنسانية تلزم أطرافها أيضا بمحاكمة مخالفيها إذا وجدوا على أراضيها أو تسليمهم إلى دولة ذات اختصاص لمحاكمتهم..
وقد أوصى تقرير جولدستون باللجوء للمحاكم الوطنية استنادا إلى الاختصاص العالمى «لحين وضوح الرؤية بالنسبة لإمكان تقديمهم للمحكمة الجنائية الدولية». كما فتح جولدستون طريقا آخر للذهاب إلى المحكمة الجنائية الدولية عن غير طريق مجلس الأمن، حيث ذكر أن السلطة الفلسطينية قد قبلت سريان اختصاص المحكمة الجنائية فى الأراضى الفلسطينية وذلك فى رسالة رسمية وجهتها إلى المدعى العام للمحكمة بتاريخ 21 يناير 2009، «تتيح المادة 12 (فقرة 3) من النظام الأساسى للدول قبول الاختصاص دون أن تصبح طرفا فى الاتفاقية».
ويوصى جولدستون المدعى العام للمحكمة فى الفترة 1632 من التقرير بأن يعتبر الأراضى الفلسطينية كدولة لأغراض المادة 12 (فقرة 3)، وذلك وفقا للقانون الدولى.
Palestine qualifies as «a State» for the purposes of Article 12 Paragraph 3, under customary International Law.
ولما كان القضاء الدولى مكملا للقضاء الوطنى وليس بديلا عنه فيشترط لسريان اختصاص المحكمة الجنائية الدولية استنفاد سبل الانتصاف داخليا قبل اللجوء إلى القضاء الدولى إلا فى حالة ثبوت عجز القضاء الداخلى عن ممارسة اختصاصه وقد أثبت تقرير جولدستون أن القضاء الإسرائيلى غير قادر وغير راغب فى ممارسة هذا الاختصاص.
صباح الخير يا عرب
هذا هو جولدستون اليهودى.. كما أن معظم الدول التى تأخذ بالاختصاص العالمى هى دول أوروبية، بالإضافة إلى جنوب أفريقيا وأستراليا ــ فأين العرب؟ فى الحقيقة فإن مجلس وزراء العدل العرب اعتمد مشروع قانون عربيا نموذجيا لمكافحة الجرائم الدولية (جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجريمة إبادة الجنس) وذلك فى 29 فبراير 2005، وانضمت الأردن وجيبوتى وجزر القمر للمحكمة الجنائية الدولية، ومعظم الدول العربية أطراف فى الاتفاقيات التى تتضمن سريان الاختصاص العالمى (اتفاقيات جنيف الأربع والعهد الدولى للحقوق المدنية والسياسية واتفاقية مناهضة التعذيب.. إلخ) ولكننا لم نسمع عن قضية واحدة فى جريمة دولية أمام المحاكم العربية.. فى حين يلاحق القضاء الأوروبى مرتكبى هذه الجرائم دون هوادة من دكتاتور شيلى السابق بنيوشيه، وزمرة الحكام العسكريين فى الأرجنتين وجواتيمالا وهندوراس (محاكم إسبانيا)، ورواندا، ورئيس تشاد السابق حسين حبرى (محاكم فرنسا)، وآرييل شارون، وزعماء الكونجو السابقين (بلجيكا).. إلخ.
أما فى مصر، فهناك مشروع قانون وافقت عليه اللجنة الوطنية للقانون الدولى الإنسانى ويرقد فى الأدراج منذ عام 2006.
خلافهم رحمة
والرحمة الوحيدة التى نجمت عن الخلاف الفلسطينى ــ الفلسطينى هى أن الخلاف هو الذى دفعهم إلى الالتفاف حول تقرير جولدستون بعد أن هاجمته حماس فى البداية ولاذت منه السلطة بالفرار ثم عادوا إليه جميعا بحماسة يحسدون عليها حتى إن كليهما قد شكل لجنة للتحقيق فى الاتهامات التى تضمنها تقرير جولدستون للفلسطينيين (حماس بالدرجة الأولى).
إذا كان أطفال الحجارة قد خدموا القضية الفلسطينية بأكثر مما فعلت حركات التحرير الفلسطينية فإن جولدستون قد أضاف حجرا ذهبيا فى تاريخ هذه القضية.. ولكن مازال الطريق طويلا، وقد رسم جولدستون خريطة مفصلة لهذا الطريق على الوجه التالى:
الذهاب إلى مجلس الأمن لكى يطالب إسرائيل والسلطة بإجراء تحقيق فى الجرائم المذكورة فى التقرير خلال ثلاثة أشهر وتشكيل فريق من شخصيات قانونية بارزة لكى يقرر عما إذا كانت إسرائيل قد قامت بتحقيق فعال.
عرض الموضوع مرة أخرى على مجلس الأمن خلال ستة أشهر لكى يقرر ما إذا كانت إسرائيل قد قامت بهذا التحقيق الفعال.
وإذا ما فشل مجلس الأمن فى اتخاذ الخطوة الأولى أو الثانية تتولى الجمعية العامة اختصاص المجلس وفقا لقرار الاتحاد من أجل السلام.