فضيلة الإمام الأكبر شيخ الجامع الأزهر
تحية طيبة وبعد..،
ليست من عادتى أن أكتب مخاطبا المسئولين ولا كبار القوم، لا أحب المناجاة ولا التوسل ولا التزلف، ولا اللعب بالكلمات لانتزاع الانتباه، أكره التصفيق لمجرد الحفاظ على الأمان الاجتماعى والسير فى ركاب المؤيدين، ولكن خطبتكم فى ذكرى الاحتفال بمولد الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) فى التاسع عشر من نوفمبر الحالى أقلقتنى بشدة وأثارت لدى الكثير من الأسئلة والملاحظات ودفعتنى إلى قطع سلسلة مقالات أكتبها للشروق عن «الحداثة» لأكتب لسيادتكم رسالتين أنشر الأولى اليوم والثانية الأسبوع القادم، وعلى أية حال فمحتوى الرسالتين لا يبعد كثيرا عن موضوع «الحداثة» الذى هو أصل التقدم والازدهار والحضارة الحديثة.
فى خطبتكم المذكورة ورغم أنها لم تتجاوز الخمس عشرة دقيقة فى حضور رئيس الجمهورية وكبار مسئولين الدولة ولفيف من علماء الأزهر الشريف، إلا أن لغتها ومحتواها كانا على قدر كبير من الأهمية لأنها تناولت قضية محورية فى تاريخ المسلم المعاصر الذى لا تخلو حياته من الارتباك بخصوص التعامل مع مفردات الدين الإسلامى، ليس شكا ولا تشكيكا ولا حتى رفضا، ولكن بحثا دءوبا عن الحقيقة، عن التوفيق بين الدين نصا وروحا وتشريعا وبين مفردات الحياة الحديثة المعاصرة التى تطورت وبشدة خلال القرون الثلاثة الأخيرة، وأدعى أنى لست وحدى الذى يعيش هذا الارتباك ولا هذا البحث، لكن ربما لا تتوافر الظروف لآخرين للبوح عما يجول بخاطرهم، ولكن لأن هذه المساحة التى توفرها لى جريدة «الشروق» المحترمة والقائمون على أمرها تسمح لى بذلك فأستغلها لتوجيه هذه الرسالة إلى سيادتكم.
***
قبل توجيه الرسالتين الطويلتين هذا الأسبوع والأسبوع القادم، لا بد من كتابة ثلاث ملاحظات تأسيسية هى عماد هذه الرسائل:
الأولى: أنا مسلم عادى، مرتبك كملايين المسلمين الذين يخشون البوح بذلك خوفا من تحمل عواقب البوح والأسئلة والاتهامات والتشكيك. الارتباك هنا ليس جهلا ولا ضعفا، ولكنه شجاعة وبحثا، قد يطول أو يقصر، بحسب الطريق والظروف. لست متآمرا ولا مشككا، ولكنى باحثا بحكم عملى الذى يبحث فى التاريخ والسياسة والعلاقات الدولية وبحكم أن نصف عمرى الراشد قضيته كأغلبية مسلمة (فى مصر)، والنصف الآخر قضيته كأقلية باحثة عن هويتها ومتمسكة بتراثها ومتسائلة بشكل مشروع عن تاريخ حضارتها فى دول أجنبية غير مسلمة متحضرة ومتقدمة (فى اليابان لمدة ثمانى سنوات، وفى الولايات المتحدة حيث أبدأ عامى الخامس الآن حيث أعيش) ، فلا مؤامرة أو رسائل خفية فى الموضوع.
الثانية: أخاطبكم بحكم مسئوليتكم وعلمكم وموقعكم لا بحكم قداستكم ولا استثنائكم، فالإسلام كما أنزل على الرسول ــ بعيدا عن حقيقة الممارسات البشرية المتمسحة به ــ لا يعرف الكهنوت ولا البطركة ولا العصمة لغير الرسول ولا الكمال لغير الله، وهذه هى عظمة رسالة الإسلام وبساطتها وتواضعها كما أؤمن بها.
أما الملاحظة الثالثة والأخيرة: فهى أنى مقتنع تماما أن حديث تجديد الخطاب الدينى لا يمكن أن يأتى بأمر أو توجيه من السلطة رغم أن حديث السلطة عنه يظل أمرا إيجابيا فى حد ذاته لكنه لا يمكن أن يحدث تغيرا دون ظروف اجتماعية وثقافية ستدفع يوما ما لهذا التجديد كحتمية تاريخية لا يمكن أن يقف أمامها أحد أيا كان موقعه أو علمه حتى لو خلصت نيته.
أما بعد..،
فى خطبة فضيلتكم المذكورة بدأتموها بالحديث عن أن القرآن الكريم لا يمكن أن ينفصل عن السنة النبوية الشريفة وأنهما معا يمثلان مصادر الشريعة وأن فصلهما يضيع «ثلاثة أرباع الشريعة» ضاربين مثلا بالصلاة التى جاءت مجملة فى النص القرآنى ومفصلة فى السنة النبوية، وحتى هنا أتفق تماما مع حديثكم ولكن فجأة وبدون مقدمات تبدو لى موضوعية عرجتم سيادتكم على تيار «القرآنيين» الذى ظهر ضمن تيارات دينية كثيرة فى الهند محملين إياه مسئولية هذا الفصل ومتهمينه بإثارة الفتنة ومصنفينه إلى ثلاث فئات إما «مدعى نبوة» أو «موالى للاستعمار»، «أو ساع لعدم الاعتراف بالقرآن!» ولتسمح لى سعة صدركم هنا فى انتقادين:
الأول: هو أنكم بحثتم فقط عن الأمثلة الشاذة (الاستثنائية) فى هذا التيار الذى مثل صحوة دينية فى القرن التاسع عشر فى شبه القارة الهندية، واسمحوا لى وبحكم تخصصى فى التاريخ السياسى الآسيوى حيث أقوم بتدريس مقرراته هنا فى جامعتى الأمريكية لطلاب من جنسيات وأديان شتى، فإن هذا التيار وكما أنتج الموالين للاستعمار والمشككين فى السنة والمدعين للنبوة، فقد أنتج أكثر من هؤلاء بكثير من المتحمسين للاستقلال والمقاومين للمستعمر والمجددين للحركة الدينية ليس فقط فى شبه القارة الهندية ولكن فى جنوب وجنوب شرق آسيا بأثرها، حركة كانت وما زالت تنتج مدارس فكرية تثرى الإسلام وتشكل هوية المسلمين الآسيويين فى هذه البلاد البعيدة!
الثانى: أنكم بسطتم تبسيطا أحسبه مخلا لسياق تاريخى ثرى فى شبه القارة الهندية بلغ فيه الصراع ذروته فى القرن التاسع عشر بين التيار الهندى القومى المتمسك فى معظمه بالهوية الهندوسية للهند والتيار الاستعمارى الذى قادته بريطانيا وغازل الهنود (مسلمين وهندوس ومسيحيين وغيرهم) بقيم التحديث والتقدم والحظوة الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية وبين تيار إسلامى قومى (يريد التوفيق بين الحضارة المغولية المسلمة فى الهند وبين غالبية السكان من غير المسلمين) وتيار إسلامى انفصالى (سعى للحصول على دولة مستقلة لمسلمى الهند)، ولتعلموا سيادتكم أن أحد مدارس السنة المتمسكة بالقرآن والسنة معا كمصادر للتشريع قد قامت بمحادثات سرية مع المستعمر البريطانى ساهمت بعد سنوات قليلة فى انفصال باكستان عن الدولة الأم فى ١٩٤٧، فهل نقفز على الحقائق ونربط بين تيار القرآن والسنة وبين الموالاة للاستعمار أو الخيانة أم نضع السياق والتعقيد التاريخى فى الحسبان فنبعد عن الربط بين أمور فى غير محلها؟
لفت نظرى أنه وبعد ذلك قمتم فضيلتكم بالحديث عما أسميتموه «بالفتنة» التى انتقلت إلى مصر بخصوص المقال الذى نشره الدكتور محمد توفيق صدقى عام ١٩٠٦ فى مجلة المنار بعنوان «الإسلام هو القرآن وحده» واتهمتوه بنشر فتنة تلقفها المتربصون بالسنة! وفات سيادتكم مرة أخرى أن هذا كان اجتهادا متواضعا قد لا يكون وفق صاحبه فى استدلالاته أو خلاصته ولكنه طرحه باعتباره «آراء وأفكارا»، والعبارتان الأخيرتان ليستا من عندى ولكنه باقى عنوان المقال الذى اكتفيتم سيادتكم بنصفه الأول! ويكفى أن استهلال المقال كان ــ وأنا هنا أقتبس ــ «هذا عنوان مقال لى جديد، أريد أن أفصح فيه عن رأى أبديه لعلماء المسلمين، المحققين منهم لا المقلدين، حتى إذا ما كنت مخطئا أرشدونى، وإذا ما كنت مصيبا أيدونى، وبشىء من علمهم أمدونى.... راجيا من الله التوفيق، للهداية إلى أقوم طريق فأقول..» انتهى الاقتباس.
***
ألا ترون سيادتكم فى هذا الحديث محاولة للبحث والتفكير؟ ألم يأمرنا الإسلام بالتدبر والتفكير حتى لا نكون مثل الدواب تحمل أسفارا؟ لماذا لا تفترض سيادتكم أنها ليست فتنة وأنها كانت مجرد تيار فكرى حاول أن يشتبك مع تراجع الحضارة وتخلفها أمام التقدم الغربى؟ لماذا لا نفترض حسن النية حتى لو كانت النتائج خاطئة؟ هذا تيار فكرى محترم فى ضوء ظرفه التاريخى، لا أتفق بالمناسبة مع استنتاجاته وخلاصاته وما زلت أرى أن القرآن والسنة معا لا ينفصلان (بشروط أوضحها فى الرسالة القادمة)، ولكنى لا أرى هذا تأمرا ولا فتنة ولا تربص، هو اجتهاد أصاب وأخطأ ونشكر البيئة الفكرية الحرة التى أتاحت ظهوره على السطح منذ أكثر من قرن لمناقشته والرد عليه بدلا من كتمانه فى الأعماق بالتشكيك فى نية أصحابه! وأتمنى لو أننا أعدنا هذه البيئة الفكرية الحرة فضيلتكم وليكن الأزهر منارة للفكر الحر والنقاش الآمن، نسمع ونرد ونناقش، فنثرى الفكر ونوضح صحيح الدين بالإقناع والحجة بدلا من الاتهام بنشر الفتنة والتآمر والتربص!
***
فى انتقال بدا لى مفاجئا ومربكا أيضا انتقلت فضيلتكم للاستشهاد بمجموعة من المستشرقين وذكرت سيادتكم ما قاله المستشرق الألمانى «أليوس شبرنجر» بحق الإسلام «أن الدنيا كلها لم تر ولن ترى أمة مثل المسلمين فقد درس بفضل علم الرجال حياة نصف مليون رجل!» المستغرب يا فضيلة الإمام أن سيادتكم أوردتم هذا النص فى سياق التأكيد على منهاجية وصدق علم الحديث، ولكن فات سيادتكم أن «أليوس شيرنجر» تحديدا هو أولا ابن نفس الصحوة الإسلامية فى شبه الجزيرة الهندية ــ التى سبق ووجهتم إليها أشد أنواع النقد والاتهام ــ الذى جاء إليها معجبا ومشدودا ثم باحثا ومنقبا وناقدا، وأنه ثانيا ــ وهو الأهم ــ صاحب أكبر انتقاد «لسلطة علم الحديث» كما أسماها حرفا حيث دعا أولا إلى فهم الأحاديث النبوية باعتبارها معبرة فقط عن روح عصرها (عصر الرسول محمد)، ودعا ثانيا إلى عدم الاعتماد» الأعمى» على الأحاديث النبوية موضحا ــ بحسب رأيه ــ تناقضات بعضها البعض منتهيا إلى أن سلطة علم الحديث مرفوضة ويجب تحديها فى ضوء التطورات المعاصرة وأحيل سيادتكم هنا إلى بعض الكتابات الدقيقة عن «شبرنجر» تحديدا والمستشرقين عموما فى مصدرين، الأول هو مقالة مطولة كتبها الباحث العراقى محمد سعدون المطورى فى مجلة «دراسات استشراقية» فى عددها الثالث الصادر فى شتاء عام ٢٠١٥ عن المركز الإسلامى للدراسات الاستراتيجية بعنوان «الاستشراق الألمانى ودوره فى الدراسات الشرقية»، وكذلك كتاب «اتجاهات المواجهات المتبادلة فى تاريخ جنوب آسيا» المحرر بواسطة جمال ماليك والصادر عام ٢٠٠٠ وتحديدا فى استشهاده برسالة دكتوراه الباحث محمد إكرام شاغاتى عام ١٩٤٧ والتى خصصها عن «شبرنجر» وإسهاماته فى دراسة علم الحديث وتطوير اللغة الأوردية وآدابها!
فبأى «شبرنجر» نأخذ يا فضيلة الإمام؟ أدعوكم بكل تواضح منى وتسامح منكم أن تصححوا استشهادكم هذا «بشبرنجر» لأنه يناقض منطق خطبتكم
وللرسالة بقية الأسبوع القادم