الدكتور يوسف بطرس غالى وزير المالية وزير ناجح جدا، ولقاءاته التليفزيونية توضح أنه خفيف الدم أيضا، لكن كل هذا لم يشفع له فى احتلال مساحة من المحبة فى قلوب المصريين تعادل ما يبذله من جهد.
والسبب الأساسى فى هذا الموضوع هو أن طبيعة منصبه تفرض عليه أن يقول: «لا» ما استطاع إلى ذلك سبيلا لكل طالب أموال، بالإضافة إلى ضرورة ابتكاره وسائل جديدة لتحصيل ضرائب تُزِيد الموارد للاستفادة منها فى تحسين الموازنة العامة للدولة، مما يظهره دائما فى صورة الكريم فى الأخذ، الشحيح فى العطاء.
ولما كان العبقرى هو الذى يعطى البيئة كفاء ما تطلب كما قال الأستاذ العقاد، والحاجة أم الاختراع، فقد خرج علينا وزير المالية بأحدث حِيَلِه، وليست آخرها على كل حال، وهى ما يعرف بالضريبة العقارية.
ولما كنت مواطنا منضبطا يحترم القانون ويخشاه، فقد شرعت فورا فى البحث عن نموذج الإقرار الذى قيل فى المرة الأولى إنه يجب تقديمه قبل نهاية العام، مما جعل الحصول عليه أمرا صعبا للغاية يقتدى تقديم إكرامية، على الرغم من أن الصفحة الأولى من الإقرار ممهورة بعبارة «هذا النموذج يصرف مجانا»، وهى جملة تذكرنا بالعبارة التى كتبها إسماعيل يس فى أحد أفلامه على مدخل التياترو «الدخول مجانا»، حيث اكتشف الجمهور بعد انتهاء العرض تبديلها بلافتة أخرى مكتوب عليها «الخروج بفلوس» .
وقد تصفحت الإقرار الواجب تحرير بياناته، فوجدت أنه يبلغ سبع صفحات فلوسكاب كاملة يجب ملء البيانات الموجودة بها كلها للوحدة الواحدة اليتيمة، وهو عدد يقترب إلى حد كبير من عدد أوراق كراسة الإجابة فى امتحانات الثانوية العامة، فأربكنى هذا جدا، وصرت أتصبب عرقا، وشعرت أننى لم أذاكر جيدا حتى أكون أهلا لكتابة مثل هذا الإقرار العظيم. لكننى تذكرت قصر المدة المحددة لتسليمه، فتوكلت على الله وقررت أن أقرأ الإقرار مرتين قبل أن أشرع فى تحريره حتى أضمن أن يكون بلا أخطاء، خوفا من سحب الشقة الوحيدة التى تؤينى إذا أخطأت، أو إذا انطلقت صفارة وزارة المالية بانتهاء الوقت المحدد قبل استكمال كتابة الإقرار.
وكنت كلما توغلت فى قراءة الإقرار ووجدت أشياء لا أفهمها ارتفع صوت ضربات قلبى واشتدت سرعتها، حتى وصلت إلى الفقرة التى تطلب تحديد منظور الوحدة «نيلى / بحرى / حديقة / منطقة ترفيهية / أرض فضاء / عشوائيات/ مقابر...» فتوجست خيفة من يوم محتوم ستبنى فيه الأرض الفضاء التى أمام منزلى وسأبدو ساعتها فى صورة المزور الذى يتعمد التهرب من الضريبة، وربما تعرضت للعقاب، وهالنى ما سوف يتعرض له قاطنو المقابر التى تتحول إلى منازل فى كل يوم دون ذنب لهم. وحتى إذا لم يتم بناء الأرض التى أمامى، فربما طفحت المياه بها يوما ما، وعندئذٍ سيصبح منظور الوحدة نيلى أو بحرى وفقا لطبيعة المياه الطافحة، وقد أُتَّهم بالتزوير والتهرب الضريبى مرة أخرى.
استعذت بالله من الوسواس الخناس وواصلت القراءة حتى وصلت إلى الفقرة التى تطلب تحديد اتجاه الوحدة «بحرى ــ قبلى»، وعندئذٍ دخلنى شك عميق فى أن هذا البند قد يعد مستندا دامغا لضريبة تحصل فيما بعد على استنشاق الهواء المنعش بخاصة فى فصل الصيف، وعند هذا الحد شعرت باختناق شديد، فغامت صورة الإقرار فى عينى، ورن فى أذنى بوضوح صوت مبحوح يردد بعض مقاطع قصيدة بيرم التونسى « المجلس البلدى» التى يقول فيها :
هو الذى لم يدع فى الأرض شاردة
كلا ولا رطبة فيها وجامـــــــــــــــــــــدة
إلا وكانت على التحصيل شاهــــــدة
يا بائع الفجل بالمليم واحـــــــــــــدة
كم للعيال وكم للمجلس البلـــــــدى
***
غازٍ إذا صارع العبسىَّ جندلَـــــــــــــه
ويُبرم الأمر عَسْفَا لن يُعدِّلـــــــــــــــــه
وإن رأَيت على بابى محصلــــــــــه
بكى الصغير يريد الخبز قلت لـــه :
دعنا لندفَع مالَ المجلس البلـدى
***
قد كنت فى المال والأولاد أشرِكه
وقد قلانى لِسرٍّ لست أدركـــــــــــــه
فإن رأيتُ ظلاما لست أَسلكـــــــــه
وإِن جلست فجيبى لست أَتركـــه
خوف اللصوص وخوف المجلس البلدى
***
كم بِتُّ فى الليل وحدى والزمان شتا
بلا نساءٍ ومثلى للنساء فتــــــــــــــــــــى
ما قلت أُفٍّ ولا قلت الزواج متــــــــى
أخشى الزواج إذا يوم الزفاف أتـــــى
يبغى العروسَ صديقى المجلس البلدى
وعلى الرغم من أن القصيدة لم تذكر لنا هل كان المسئول عن المجلس البلدى فى ذلك الحين أيضا واحدا من عائلة غالى العريقة فى السياسة والحكم أم لا، فإن بيرم التونسى رائد العامية الكبير كان حريصا وحويطا حين كتب قصيدته تلك باللغة الفصحى المتوارثة منذ قرون طويلة، خشية أن يطالبه المجلس البلدى بضريبة أخرى نظرا لاستخدامه لغة جديدة فى كتابة الشعر .