لم أستطع أن أغادر ذلك اليوم الذى كتبت فيه فى مساء 23 يناير 2011 عمودا عنوانه «كم يكفى لإحداث ثورة؟ وفى ذلك الوقت كنت أميل إلى الاعتقاد أن الثورة قادمة رغم تشكك البعض. وسأترك حضراتكم مع ما ظهر فى عمودى المتواضع هذا فى 25 يناير الماضى ثم أعقب بسؤالى الجديد: «كم يكفى لإحداث ثورة أخرى؟»
كتبت منذ عام بالتمام والكمال ما يلى: «فى حوار مع بعض المصريين فى الخارج رجح معظمهم استحالة انتقال العدوى من تونس إلى مصر». وقد ساقوا عدة أسباب:
1 ـ الشعب المصرى «مِنفّس» أى أنه يقوم بالتنفيس عن غضبه من خلال النكات ومشاهدة الفضائيات والخطاب الدينى الإرجائى الذى يدعو الناس لأن يصبر على الحاكم ولو ضرب ظهرك وأخذ مالك، فالحاكم متروك (أى مرجأ) لأمر الله يوم القيامة ولا مجال لمحاسبته فى الدنيا إلا إذا منع الناس من الصلاة.
2 ــ الشعب المصرى «فسد» حيث انتقل فساد حاكميه لمحكوميه بفضل الجهود الجبارة للإخوة النصابين الذين يتحدثون عن الفضيلة ويمارسون الرذيلة ويكتسبون الحصانة عبر شراء الأصوات والتزوير فى الانتخابات. وبالتالى لا فرق كبيرا بين أن يساعد بعض الآباء أبناءهم على الغش فى الامتحانات أو أن يقوموا هم بالغش فى الانتخابات.
3 ــ الشعب المصرى «محافظ» أى أنه لأسباب تاريخية وثقافية لا يتحرك من النقطة «أ» إلا إذا عرف النقطة «ب» ولهذا يفضل «العفريت اللى يعرفه عن الملاك اللى ما يعرفوش»، فلا يكفى أن تقول «لا» للتمديد و«لا» للتوريث، بل لابد أن تقول لهم بوضوح «نعم» لمن. 4 ــ الشعب المصرى «جاهل» وليس متعلما تعليما راقيا مثل نظيره التونسى، جامعاتنا ومدارسنا تساهم فى جريمة متكاملة الأركان تجعل خريجينا غير قادرين على الابتكار والتفكير بشكل غير نمطى (صدقت إحدى مسئولات صندوق النقد الدولى على هذا الكلام خلال اليومين الماضيين.)
5 ــ المسيسون من المصريين على قلتهم شديدو الانقسام أيديولوجيا، فلو اجتمع خمسة من قيادات الرأى والفكر والسياسة فى مصر فيصلون إلى 10 آراء متعارضة. رغما عن كل ما سبق، فأنا أعتقد أن الاطمئنان الذى أبداه بعض المحسوبين على الحزب الحاكم لدرجة الادعاء بأن احتمال انتقال العدوى إلى مصر «كلام فارغ» لا يقوم على قراءة سليمة لتاريخ ثورات وانتفاضات الشعوب سواء فى منطقتنا أو فى العالم. ولو صدق تحليل تشارلز تيلى (كواحد من أعظم من درسوا تاريخ الثورات فى العالم) فإن نسبة من يقومون بالثورة فعليا لا يزيدون على 5 بالمائة من المواطنين. ولو تخيلنا فى مصر 1 بالمائة فقط من المصريين فوق سن الـ 18 (أى 50 مليون مصرى) والذين لا تنطبق عليهم الصفات الخمس السابقة، فهؤلاء سيكونون نصف مليون شخص. من يستطيع أن يوقف زحف مثل هذا العدد المهول من البشر؟ لذا أصلحوا أو ارحلوا».
هذا ما قيل صبيحة ثورتنا آنذاك، وكل قيمته بالنسبة لنا الآن أن نسأل أنفسنا: كم يكفى لإحداث ثورة جديدة؟ ثورة فى الفكر والخلق، ثورة فى التعليم والعمل، ثورة فى التنمية والتعمير؟ العدو القادم لن يكون أسرة حاكمة أو حزبا متسلطا. العدو القادم سيكون «نحن» إن أسأنا لوطننا. لدينا معضلات مركبة تحتاج حلولا مركبة ولكنها لن تنفع مع نفوس غير سوية. لا أملك أن أقول: أصلحوا أو ارحلوا لأن المخاطب فى هذا الحال هو الشعب المصرى كله، لذا أقول: فلنصلح أو نموت لأن عدم الصلاح وعدم الإصلاح فى هذا الحال والموت سواء.
أراكم اليوم فى ميدان التحرير ظهرا وسأغادر معكم مساء لأبدأ يومى غدا بمزيد من العمل من أجل هذا الوطن بإذن الله.