مصر أمام مفترق طرق خطير لا أعتقد أن الكثيرين ممن يتصدرون الساحة السياسية الآن أو الذين يُحركون من هم فى الساحة يدركون خطورته على مصر وعلى الدول العربية وعلى العالم بأسره. شبابنا الثائر فجّر ثورة عارمة، إلتف حولها الشعب، فسقط الحكم المستبد وانهار حاجز الخوف. ثم ترك الشعب للنخب بقية المهمة، لتصنع دستورا ديمقراطيا حقيقيا، يعبر عن مطالب الشعب كله، ويحدد أسس دولة القانون والمؤسسات التى تضع مصر على أول طريق النهضة واسترداد الكرامة.
لما جاء الدور على النخبة لاستكمال الطريق نرى مصادر خطر متعددة تأتى كلها من سيطرة نخب عاجزة وعقليات إقصائية على مقدرات الأمور داخل معظم الكيانات القائمة من مؤسسات دولة ووزارات وأحزاب سياسية وقوى اجتماعية، نخب تفتقد أبجديات العمل السياسى وأسس الإدارة الحديثة ولا تمتلك أدوات قراءة الواقع بشكل صحيح. نخب تخصصت فى صنع الانقسامات السياسية بدلا من التوافقات الوطنية، وفى إعلان المواقف المرتبكة وخلق الأزمات بشأن قضايا مصيرية بدلا من امتلاك القدرة على الانحياز إلى مصالح الوطن الجامعة، نخب أدائها الإعلامى هزيل ولا يتواكب مع حاجة الشارع الذى فقد الثقة فى السياسة والسياسيين بعد عقود من الاستبداد والتجهيل.
●●●
فيما يلى بعض الأفكار أعتقد أن على كل من يتولى مسئولية داخل حزب أو جماعة أو مؤسسة العمل جاهدا على الالتزام بها:
أولا: امتلاك أدوات قراءة الواقع وتحليل المواقف وحساب المخاطر السياسية: فالسياسة علم وفن، ويجب على كل من يتقدم الصفوف أن يسلح نفسه جيدا بأكبر قدر من المعرفة والمهارات. ويجب ألا يظن كل فصيل أنه وحده القادر على قراءة الواقع بشكل صحيح، ولا يصح أن يظن كل ناشط أو قيادى أنه الأفضل والأعلم والأجدر بسماع كلامه، ولا يمكن أبدا الإستهانة ببرامج إعداد الكوادر وتأهيلهم. انتهى عصر الزعيم الأوحد الذى يعتقد أنه وحده القادر على معالجة كل الملفات.
ثانيا: الاعتماد على الإدارة المؤسسية: اللوائح الداخلية لابد أن تحدد طرق صنع القرارات داخل كل حزب أو جماعة، وتضع آليات الشورى الداخلية، وتحدد الحقوق والواجبات بدقة. يجب أن يكون داخل كل حزب ومؤسسة هيكل إدارى واضح، وتوصيف وظيفى للمهام، وآليات للمتابعة وطرق للمحاسبة. من الخطأ الانفراد بصنع القرار فى زمن تتوفر فيه المعلومات ويرفض فيه الشباب كل صور الهيمنة. انتهى عصر قيادة الجماهير وعهد الطاعة العمياء، وانتهى عصر السرية والكتمان فى كل كبيرة وصغيرة. ولا يجب أبدا أن يكون هناك صراع بين الأجيال، فمعيار الكفاءة يجب أن يكون هو الأساس بغض النظر على السن.
ثالثا: العلاقات بين الأحزاب والقوى المختلفة: لابد من نبذ عقلية الإقصاء والإنفراد فى اتخاذ القرارات، والتخلى عن فكرة الأغلبية أو الأكثرية، والتحرر من الشك المتبادل. فمن أبجديات المراحل الانتقالية التوافقية والمشاركة، وهنا يقع على القوى الكبيرة واجب إشراك الجميع بشكل حقيقى فى تقرير معالم الطريق. إن الدساتير التى تضعها أكثرية أو أغلبية ما فى البرلمان لا يكتب لها عادة الدوام. وفى حالتنا المصرية الحالة الثورية لازالت مرتفعة ولا يمكن أبدا التقليل من شأن عشرات الآلاف من المتظاهرين. وليتذكر الجميع أن الثورات والانتفاضات لا تبدأ بأكثر من هذا.
رابعا: الاستعانة دوما بالمتخصصين والخبراء لمواجهة نقص الكفاءات والخبرة، فبناء دولة المؤسسات ووضع الدساتير وإدارة الدول الحديثة صارت من التعقيد والتشعب على نحو لا يمكن معها أن يحيط بها شخص واحد أو مجموعة أشخاص. هذه ليست قضايا عامة وإنما هى فروع دقيقة للعلوم السياسية التى تضم الآن أكثر من أربعين تخصصا فرعيا. وفى الغرب لا يوجد «متخصص فى العلوم السياسية»، فالتخصصات صارت فى موضوعات دقيقة مثل العلاقات المدنية/ العسكرية، صنع الدساتير، الحملات الانتخابية، الأحزاب، النقابات، العمل البرلمانى..
خامسا: الإعلام والاتصال السياسى: يجب أن يكون هناك جهاز إعلامى قوى وفعال للتفاعل مع الجمهور العريض ومع الخارج، بجانب نظام متطور لتداول المعلومات. فضلا على قنوات فعالة للاتصال السياسى الداخلى للربط بين الكوادر وجماهير الحزب بشكل مؤسسى دائم، وبين مركز الحزب بالعاصمة ومقاره بالمحافظات المختلفة.
سادسا: التفرغ والتمويل: ممارسة السياسة تحتاج إلى التفرغ، ويحتاج كل حزب إلى مكتب فنى متخصص وإلى سكرتاريا متخصصة. ويقتضى هذا البحث جديا عن مصادر للتمويل المادى اللازم لدعم تفرغ السياسيين وتمويل أنشطة الحزب، وهنا يجب الانفتاح على رجال الأعمال الشرفاء واستخدام أسلوب الوقف، مع وضع جميع الضمانات لعدم سيطرة أصحاب التمويل على قرارات الحزب.
سابعا: وضع آداب للممارسة السياسية وقواعد للحوار تحترم جميع الآراء والأعمار وتبعدنا عن عقلية الإقصاء والتخوين والمؤامرة والشك.
ثامنا: لتحقيق الانتقال إلى الديمقراطية بشكل صحيح لابد أن تجتمع القوى السياسية الوطنية على مرشح رئاسى واحد (أو فريق رئاسى) لا يكون له أى صلة بالنظام التى قامت الثورة للقضاء عليه، ويكون منفتحا على جميع التيارات السياسية ويمتلك تاريخ نضالى مشرف قبل وأثناء الثورة. الأمور لا تحتمل أى تأخير ويجب على كل المخلصين الإعلان عن مواقف نهائية.
●●●
هذه الأمور صارت من أبجديات الممارسة السياسية الناجحة، ولهذا أعتقد أن فشل النخب فى إدارة مؤسساتها وأحزابها وإدارة المرحلة الانتقالية بنجاح لن يؤدى إلا إلى تجاوز الشباب لهم من جديد. فلنتذكر جميعا أنه عشية ثورة 25 يناير كان البعض ينظر إلى الشباب على أنهم عقبة أمام التغيير بتسرعهم وكثرة صفحاتهم على فيس بوك! فشل النخب أو ظهور دستور غير ديمقراطى سيؤدى إلى خروج الشباب من جديد فهذا الجيل لن يسكت. فاعتبروا يا أولى الألباب.