كانت الانتخابات الإسرائيلية العامة الأخيرة معركة أدى فيها النشاط السيبرانى دورا أكبر مما كان فى أى وقت سابق، وكان من الممكن أن يكون أسوأ بكثير. ويجب التمييز بصورة واضحة بين أحداث سيبرانية أساسها حدوث اختراقات غير مسموح بها لمنظومات حواسيب وسجلات معلومات، فى محاولة لتشويش سير العملية الانتخابية أو التأثير فيها، وبين أنشطة غير «اختراقية» لكنها تحدث فى الفضاء السيبرانى حيث ملايين الأشخاص متصلون بعضهم ببعض وحيث يجرى الجزء الأساسى من المعركة الانتخابية.
لنبدأ بأحداث سيبرانية فى صلبها الاختراق: نظرا إلى كون الفضاء السيبرانى مجالا حديثا نسبيا، ولم تجرِ فى إسرائيل من قبل انتخابات عامة كانت تؤدى فيها السيبرانية دورا بهذه الأهمية، فقد جرت عملية تنظيم الحماية السيبرانية بين الهيئات المتعددة.
كانت حماية المعركة الانتخابية، بصورة عامة، تحت مسئولية وإشراف «الجهاز القومى للسيبرانية»، وهو عبارة عن جهاز تابع لديوان رئاسة الحكومة ومسئول عن تشغيل «المركز القومى للحماية السيبرانية»، ومقره فى مدينة بئر السبع جنوب إسرائيل.
قرر رئيس «الجهاز القومى للسيبرانية»، يغئال أونا منذ البداية، عدم تعامل «الجهاز» مع أى نشاط «رمادى» يجرى فى شبكات التواصل الاجتماعى، مثل تشغيل «ذباب إلكترونى» يحاول التأثير فى الرأى العام بواسطة حسابات شخصية مفبركة، بل أن يركز جهوده فى منع حدوث اختراقات لمنظومات المعركة الانتخابية المحوسبة ولمقار الأحزاب المشاركة فى الانتخابات.
جهاز «الشاباك» كان دائما هو المسئول عن توفير الحماية من أى عناصر أو جهات معادية، إذ إن أى تشويش للمعركة الانتخابية بواسطة جهة أجنبية قد يُعتبر «عملية عدائية». وفى المقابل تعاقدت لجنة الانتخابات المركزية التى تعمل كجهاز مستقل، مع بوكى كرملى الذى كان مديرا لـ«السلطة القومية للسيبرانية» التى تم حلها سنة 2018 ودمجها ضمن «الجهاز القومى للسيبرانية»، ليكون مستشارا خاصا للشئون السيبرانية. كان كرملى الشخص الوحيد الذى تطرق إلى موضوع السيبرانية والانتخابات بصورة علنية، وذلك حين قال: «بالتعاون مع المديرة العامة للجنة الانتخابات، قمنا بتشخيص وترسيم أربع منظومات مختلفة مرتبطة بالسيبرانية ــ التخزين، المعلومات، الاتصال والتوزيع، وإن حمايتها لأمر حيوى جدا خلال التحضير للانتخابات، خلال الانتخابات نفسها وبعدها أيضا».
أخذت لجنة الانتخابات المركزية على عاتقها المسئولية عن معالجة المجال الرمادى، فألزمت جميع الأحزاب بالكشف عن هويتها لدى نشر أى مادة دعائية من طرفها، بما فى ذلك على شبكات التواصل الاجتماعى، فى مسعى منها لمحاربة الذباب الإلكترونى.
***
احتل موضوع السيبرانية العناوين فى سياق الحديث عن الانتخابات لأول مرة فى يناير، حين حذر رئيس «الشاباك» نداف أرغمان من خطر تدخل دولة أجنبية فى الانتخابات البرلمانية الإسرائيلية. كان أرغمان، على ما يبدو وكما كُشف لاحقا، يقصد إيران واختراق الهاتف الشخصى لبنى جانتس [الرئيس السابق لهيئة الأركان العامة]. وحتى اللحظة التى كشف فيها الصحافى عميت سيجال عن هذا الاختراق، كانت المعلومات عنه معروفة لدى عدد قليل جدا من الأشخاص، كمادة «سوداء» بالأساس ــ أى أن التقارير بشأنها قد تم تناقلها على درجة عالية جدا من السرية، بينما جرى «تسويد» اسم جانتس ولم يكن فى الإمكان معرفة هوية الشخص المعنى..
فى كل الأحوال، يمكن القول إن بداية معركة الانتخابات للكنيست الـ21 كانت، من وجهة نظر «الجهاز القومى للسيبرانية» فى مارس 2018. ولم يكن موعد إجراء الانتخابات معروفا آنذاك، لكن كان من الواضح أنها ستجرى خلال سنة 2019 فى كل الأحوال. ولهذا جمع مسئولو «الجهاز» ممثلى جميع الكتل البرلمانية المختلفة وقدموا لهم الإرشادات اللازمة بشأن كيفية الاستعداد للانتخابات. أحد السيناريوهات التى جرى عرضها أمام ممثلى الكتل البرلمانية تحدث عن احتمال حدوث اختراق تكون نتيجته الحصول على معلومات عن أحد المرشحين يجرى نشرها على الملأ، كما حدث فعلا فى حالة المرشح بنى غانتس لاحقا.
***
أُخضعت البرمجيات المستخدمة لتجميع وتركيز ومعالجة نتائج فرز صناديق الاقتراع للفحص مرات عديدة وأُجريت محاولات متعمدة لاختراقها، فى مسعى للكشف عن نقاط ضعف محتملة فيها. وحين حدث تشويش فى تلخيص النتائج، ظهرت تخوفات من أن هجوما سيبرانيا قد حدث فعلا.
وعلى الرغم من أن التقديرات النهائية دلت على أنه لم يحدث تشويش فى عملية فرز الأصوات وعدها، إلا إنه سيكون هناك تخوف على الدوام، فى كل مكان فى العالم، من حدوث تدخل ذكى ومحنك فى الانتخابات، من دون ترك أى آثار أو بصمات. فى الولايات المتحدة مثلا هناك عدد غير قليل من الأشخاص الذين ما زالوا يعتقدون، حتى اليوم، أن نتائج الانتخابات الرئاسية هناك تعرضت للتلاعب وتم تحريفها لمصلحة دونالد ترامب، بواسطة إجراءات سيبرانية متعددة.
على أى حال، خلال الأسبوع الذى جرت فيه الانتخابات العامة فى إسرائيل، عمل «الجهاز القومى للسيبرانية» كما لو أنه فى خضم عملية أمنية وفى حالة تأهب قصوى. وليس أقل من 20 شخصا فى غرفة قيادة الطوارئ المركزية فى مقر لجنة الانتخابات، فى مبنى الكنيست، كانوا من مسئولى «الجهاز القومى للسيبرانية». وهذه المعلومة لم تُذكر فى بطاقات التعريف الخاصة التى علقوها على صدورهم، تلافيا لخلق انطباع عام بأن الانتخابات تجرى فى ظل هجوم سيبرانى.
***
فى هذه الأثناء بدأ الفضاء السيبرانى يحتل مكانا مركزيا أكثر فأكثر فى الجيش الإسرائيلى أيضا. وبدا ذلك واضحا بشكل أكبر منذ أن تسلم الجنرال أفيف كوخافى مهمات منصبه رئيسا لهيئة أركان الجيش.
كان لدى كوخافى دافع قوى لتحسين مستوى الحرب الرقمية بل إن كوخافى طور مجالا جديدا أطلق عليه اسم «القتال المستند إلى الاستخبارات» الذى يقوم أساسا على ضخ المعلومات الاستخباراتية حتى القوات الأصغر فى الميدان.
ونحن نكشف هنا والآن أن كوخافى يخطط لإحداث ثورة إضافية أخرى يطلق عليها اسم «التحول الرقمى»، فى صلبها الانتقال إلى استخدام المعلومات الرقمية الموحدة فى مختلف أذرع الجيش وأقسامه. وربما نبلغ أيضا العصر الذى يتم فيه ربط حتى سلاح الجو وشعبة الاستخبارات أيضا بالأذرع الأخرى فى الجيش. من أجل هذه الثورة قد يلجأ كوخافى إلى تعيين ضابط برتبة عميد فى قسم الحوسبة وأنظمة المعلومات. إن التفاصيل المتعلقة بهذا ستُقر بصورة نهائية فى هيئة الأركان العامة للجيش، قريبا على ما يبدو.