مازال مجلس الشورى يناقش الموازنة العامة للدولة التى تدخل فى حيز التنفيذ فى أول يوليو القادم. وتعتبر هذه الموازنة هى الموازنة الأولى للرئيس محمد مرسى، حيث إن المجلس العسكرى الحاكم كان قد أقر الموازنة الخاصة بالعام المالى 2012/2013 قبل انتقال السلطة للرئيس المنتخب فى 30 يونيو 2012 بأيام.
ويجىء تقديم الموازنة الجديدة فى وقت بالغ الدقة نتيجة لاستمرار حالة الاستقطاب المجتمعى والتراجع الأمنى الذى يعطل عجلة الإنتاج فى مجالات كثيرة وأولها السياحة ويحرم الموازنة العامة من موارد مهمة. وفى ذات الوقت تزداد المطالب المجتمعية بخلق فرص العمل وتحسين الأجور ودعم السلع الأساسية وتزيد احتياجات الأمن فى سيناء ومراقبة الحدود. ناهيك عن تزايد التزامات مصر الدولية فى وادى النيل وتجاه الدول الصديقة التى تمر بظروف استثنائية مثل فلسطين وليبيا وسوريا، والتى انتقلت بعض آثارها الى مصر وبالذات مع تدفق اللاجئين السوريين الذين تقطعت بهم السبل ويتوقعون الحماية والمسكن والتعليم والمعيشة الكريمة لأبنائهم فى ضيافة مصر.
ومع كل هذه الآمال، فإن استمرار الظروف السياسية والاقتصادية الصعبة تنذر بصعوبة أن تستطيع الموازنة الاستجابة لكل هذه الطلبات أو أن تنتصر على معوقات إرث مهول من العجز والمديونية والاختلال المالى دفعة واحدة. وعليه فمن المثير للدهشة أن تعكس التوجهات الرئيسية لمشروع الموازنة العامة طموحات محلقة نخشى أن تنتهى بالسقوط فى بحر من الفشل والإحباط.
●●●
وتظهر بيانات الموازنة العامة الجديدة استجابة واضحة لمطالب تحسين الأجور حيث تتوقع الموازنة زيادة بند الأجور الى 172 مليار جنيه، أى بنسبة زيادة 26% عن موازنة 2013. ومن المفترض أن تمثل هذه الزيادة ليس فقط تحسين وضع العاملين الموجودين حاليا فى الخدمة المدنية، ولكن أيضا بعض الزيادة فى عدد العاملين فى الدولة الذى قد يمثل استجابة لمطالب تثبيت الكثير من العاملين فى الدولة أو تعيين لأبناء المناطق النائية.
وبالمثل يوضح مشروع الموازنة أن هناك زيادة كبيرة فى المبالغ المرصودة للدعم والمنح والمزايا الاجتماعية، ويقدر هذا المبلغ بـ 205,5 مليار جنيه ويمثل أكبر بنود الموازنة ويعبر بحق عن رغبة حكومة ما بعد الثورة فى الاستجابة لاحتياجات الطبقات الفقيرة والمتوسطة. ويمثل هذا البند زيادة تقترب من 60 مليارا من موازنة العام المالى السابق، وحوالى 23 مليار جنيه من فعلى هذا البند المقدر للعام السابق أيضا. ومن الواضح أن بند دعم الوقود كان مسئولا عن معظم هذه الزيادة فى الأرقام الفعلية عن موازنة العام الماضى. وكما أشار السيد وزير المالية الدكتور المرسى حجازى (الذى أطيح به فى التعديل الوزارى الأخير بعد تقديمه للموازنة بأيام) فإن جهود تخفيض دعم الوقود سوف تعتمد على نظم كمية مثل كوبونات البنزين الى جانب تحرير الأسعار.
وتتضمن الموازنة أيضا زيادة بنسبة 14,5% فى مجمل الاستثمارات العامة من حوالى 55,6 مليار جنيه فى العام المالى 2012/2013 الى 63,7 مليار جنيه فى العام المالى القادم. وتتمشى هذه الزيادة فى مطالب الجماهير فى تحسين المرافق العامة والاهتمام بالمناطق المحرومة والتوسع العمرانى.
ولعل المعضلة الأساسية فى مشروع الموازنة هو كيفية تغطية هذه الزيادات الكبيرة فى المصروفات فى الوقت الذى لم تتحقق وعود المعونات الغربية والعربية التى تناثرت فى الأشهر الأولى للربيع العربى. بل إن الموازنة تكشف لأول مرة انخفاض المنح والمعونات الى ربع المقدر للعام المالى السابق الى فقط 2,3 مليار جنيه.
ومن ناحية أخرى، أخفقت الموازنة الجديدة فى تحقيق مفهوم العدالة الاجتماعية الذى رفعته الثورة. فبينما زاد الحد الأدنى للإعفاء الضريبى الى 12 ألف جنيه بدلا من 9 آلاف جنيه، وهى زيادة تكاد تساوى معدلات التضخم منذ إقرار الحد الأدنى للإعفاء، ولم تتم زيادة تصاعدية الضريبة بشكل مقنع.
ويشمل جانب الإيرادات بمشروع الموازنة العامة للدولة توقعات طموحة قد لا يسهل تحقيقها ومن ذلك زيادة إيرادات الضرائب بحوالى 90 مليار جنيه الى 356,9 مليار جنيه، وزيادة الإيرادات الأخرى من أرباح المؤسسات العامة وبيع أصول الى 137,9 مليار جنيه (بزيادة 20 مليار جنيه عن المقدر فى العام الماضى). ورغم اعتماد الموازنة على زيادة فى تصاعدية الضريبة على الدخول التى تفوق 5 ملايين جنيه، وعلى زيادة الضرائب على السلع والخدمات، إلا أننا نتشكك فى إمكانية تحقيق هذه الطفرة الكبيرة والمقدرة بـ33% فى إيرادات الضرائب فى ظل كساد الأسواق وتراجع السياحة.
●●●
أما المفاجأة الكبرى فى مشروع الموازنة الجديد فهو القفزة العالية فى بند فوائد الدين العام والذى يقدر بـ182 مليار جنيه، وهو يزيد بـ 50 مليار جنيه عن المبلغ المقدر فى الموازنة السابقة ويصل الى ما يزيد قليلا عن ربع إجمالى المصروفات. ويزيد ما تدفعه الحكومة من فوائد على المديونيات الداخلية والخارجية عن إجمالى الأجور لأول مرة فى تاريخ الموازنة المصرية.
ويتطلب الحرص أن نتوقف عند ما يسمى بالعجز النقدى للموازنة والذى يقدره السيد وزير المالية السابق بـ 9,5% من الناتج المحلى الإجمالى. ونلاحظ أن هذه النسبة لا تتضمن ما تسدده الحكومة من أصل هذه الديون وقدره 114,5 مليار. فإذا أخذنا فى الاعتبار إجمالى عبء الدين من فوائد وأقساط لوصلنا بسهولة الى أن العجز الكلى يمثل 17,5% من الناتج المحلى الإجمالى وهو رقم مهول يفوق عبء مديونية اليونان أو قبرص التى كادت تعلن افلاسها مؤخرا. ومع أن الجزء الأكبر من المديونية المصرية مديونية داخلية يسهل تغطيتها بالعملة المحلية، فإن هذه التطورات المتسارعة فى موقف المديونية كفيل بأن يدق كل أجراس الخطر وينبه المسئولين الى أزمة كبرى تحتاج الى علاج مبتكر وسريع. ولعل من الطبيعى أن تعمل حكومة ذات توجه إسلامى على التخلص من الدين وفوائده.
ولعل المخرج الوحيد من الأزمة المالية الحالية هو فتح باب حوار مدنى يصل الى توافق سياسى ومجتمعى يؤكد أن الجميع شركاء فى حل مشاكل الوطن.
أستاذ الاقتصاد بالجامعة البريطانية