فى حياة أى مصرى يعيش فى الغربة، مشهد شبه سينمائى يتكرر بصفة دورية من دون أن يفقد شيئا من قوة تأثيره. هذا المشهد عادة ما يتكون من لقطتين.
●●●
اللقطة الأولى هى اللحظة التى تهبط بها الطائرة أرض القاهرة، بعد غياب طويل قد يكون استمر سنة أو أكثر.
طالما تساءلت عن سبب هذه الحالة الفريدة التى تنتابنى كلما عدت إلى العاصمة المصرية: وجدان خافت يتصاعد تدريجيا طوال مدة الرحلة الجوية، بينما تستعيد الروح ذكريات الزيارات السابقة وتحاول أن تتنبأ بما قد يحدث فى هذه المرة، ثم يصل إلى ذروته بعد الهبوط بدقائق، لحظة عبور العتبة التى تفصل بين متن الطائرة المتوقفة والسلم المؤدى إلى أرض مصر، لحظة استنشاق أول جرعة من الهواء المفعم بالسخونة وبتلك الرائحة الخاصة جدا التى يعبق بها الجو عند أول خطوة فى الهواء الطلق.
بالطبع، جزء من هذا الوجدان يعود إلى الشغف إلى مد حبل المحبة مع الأقارب، والتأهب لجلسات السمر مع الأصدقاء حول كوب شاى بالنعناع، والمناقشات ــ المليئة بالدفء والنكات ــ التى تمتد عبر الليل.
لكن هناك شيئا آخر، شىء يرتبط بالمدينة نفسها. هناك اشتياق للمدينة فى حد ذاتها.
●●●
هنا تأتى اللقطة الثانية، وهى الجولة التى يقطع فيها المغترب العائد لوطنه المسافة بين المطار ومكان إقامته، تتملكه خلالها الرغبة فى الاطلاع على حركة المدينة التى تجرى أمامه فيما يشبه عرضا مستمرا. وبما أن طول غيابه وشدة حنينه جعلا نظرته ثاقبة، سيلاحظ التغيرات التى لحقت بالمدينة منذ زيارته الأخيرة. نعم، لابد أن تكون هناك تغيرات حدثت، لأن من صفات القاهرة المميزة هذا الاستبدال المستمر فى المعالم.
الواقع ان من يتأمل تطور المدينة عبر نصف قرن يجد أنها تقدمت فى مجملها تقدما ملموسا، وإن كان هذا التقدم تشوبه، فى بعض الأحيان، تحفظات حول الطريقة التى تم بها عندما تمت الموافقة على مشاريع ضخمة تهدف إلى تحديث المدينة بأى ثمن وغالبا لصالح طبقة دون غيرها. أثرت هذه المشاريع سلبا على النسيج الاجتماعى، فمنها ما يفرق بين المدينة وأهلها ــ مثل تلك الأبراج ناطحات السحاب التى بنيت دون مراعاة للبيئة البشرية المحيطة ــ أو يفرق بين السكان أنفسهم ــ مثل الـ(كومباوندز) التى تتحصن بالأسوارالعالية كى تعزل نفسها عن العامة.
●●●
فى الحقيقة، لا أعرف أى عاصمة أخرى فى العالم يمكن أن تثير هذا الكم من المشاعر المتناقضة: الحب والكراهية، الإعجاب والإستياء، الاستمتاع والضيق.
وإذا سألت سكان القاهرة الدائمين عن مشاعرهم تجاه مدينتهم، ستجدهم إما محسورين على قاهرة زمان التى ولت ولن تعود، أو يطلقون نكتة عن وجوب محْوها بالكامل وبنائها من جديد.
قد يتفهم المغترب هذه الحسرة، قد يضحك لتلك النكتة، لكنه يدرك فى قرارة نفسه أن التقلبات التى تعيشها القاهرة أكبر دليل على أنها مدينة حية، مدينة تنفعل وترتجف وتتحرك، وليست مدينة متحجرة مثل بعض مدن الغرب التى تحولت إلى متاحف جميلة ولكنها تموت من البرد.
لذلك، فى اللحظة التى أجد نفسى حزينا على بعض أوجه التطور الذى لحق بالمدينة، سرعان ما يصادفنى مشهد أو موقف يصالحنى مع نفسى ومع المدينة، ويطمئننى على أنها مازالت تحتوى على مكامن جمال وإثارة، والأهم من ذلك، انها ثرية بتنوعها الإنسانى الفريد وقيم أهلها الطيبة.
●●●
لذلك، أحب القاهرة، لا كمن بهر بمنظر طبيعى أو لوحة فنية ثابتة، ولكن كمن وقع فى غرام امرأة، ليس بالضرورة لأنها اجمل امرأة فى العالم ولا لأنها خالية من العيوب، بل لكونها مليئة بالحيوية ولقدرتها على هز مشاعره وإثارة أحلامه.
فالقاهرة تتميز، إلى جانب حيويتها، بقدرة فائقة على تنشيط الذاكرة وتأجيج الخيال. لا يمكنك التفكير فيها دون أن تشعر بفيض من الفلاشات الفنية المتمثلة فى بيت من الشعر، مقطع من رواية، مشهد سينمائى أو معزوفة موسيقية... كانت القاهرة دائما مصدرا للوحى لكثير من الأدباء، الذين رأوا فيها أكثر من مجرد ديكور لأعمالهم، بل معملا حيا يصلح لإجراء تجارب كيميائية خاصة، تتفاعل من خلالها روح المدينة مع أبطالها وشخصياتها.
أحببت تلك القاهرة الأدبية حبا موازيا لحبى لها كمدينة حية من لحم وشحم، وربما من هنا كان اصرارى على نقل تلك الأعمال من العربية إلى الفرنسية، خاصة أعمال نجيب محفوظ وجمال الغيطانى. وجدت فى تلك الأعمال ما يغذى اشتياقى لمصر عموما والقاهرة خاصة، لكن كان هناك وسواسا يهمس لى بأن هذا لا يكفى، وإنه ينبغى على أن أخاطب محبوبتى ــ القاهرة ــ مباشرة وليس عبر أصوات أخرى، مهما كانت موهبتها.
أخاطبها مباشرة؟ ولكن ماذا أقول؟ وكيف أبتكر قصة تليق بها، أنا الذى أعشق الكلمة ولكننى أفتقر إلى الحد الأدنى من الخيال ــ أو هكذا كنت أظن؟
●●●
ظللت أفكر فى تلك المعضلة لشهور، بل لسنين، إلى أن جاءنى أخيرا مخرج من هذه الحيرة، عندما تذكرت هذا المشهد الذى أوردته أعلاه ــ أعنى مشهد المغترب الذى تهبط به الطائرة إلى القاهرة ثم جولته الأولى عبر شوارع العاصمة ــ والذى استقر فى مخيلتى. وفجأة شعرت بسعادة كبيرة، سعادة من اكتشف كنزا تحت رجليه! أدركت أنه بإمكانى أن أحول هذا المشهد الافتتاحى إلى مطلع رواية مثيرة تتيح لى إمكانية الخوض فى المدينة من خلال حبكة روائية. كل ما يحتاجه الأمر هو القليل من لوى الأحداث وطى المواقف كى تجارى قدرة القاهرة على خلق الخيال والأساطير.
فماذا لو تعرض مغتربنا العائد، فى التاكسى الذى أخذه من المطار، لإغمائة مفاجئة؟ وماذا لو استيقظ منها فى بنسيون مجهول بوسط المدينة؟ وماذا لو تبين له عند إفاقته انه فقد أجزاء كاملة من ذاكرته؟ وكيف ستبدو له المدينة وهو لا يملك إلا حواسه المشتعلة؟
من هنا كانت روايتى الأولى Le Caire à corps perdu «القاهرة حتى الفقدان»، التى ربما كتبتها فقط لإعادة اكتشاف قاهرتى الحبيبة بأعين جديدة.