العشوائية.. سلوك ونواتج - وائل زكى - بوابة الشروق
الخميس 19 ديسمبر 2024 12:02 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

العشوائية.. سلوك ونواتج

نشر فى : الثلاثاء 25 سبتمبر 2012 - 8:20 ص | آخر تحديث : الثلاثاء 25 سبتمبر 2012 - 8:20 ص

أطلق العرب على الناقة التى لا تبصر ليلا المصابة بعشى ليلى صفة العشواء، فهى تسير تخبط الأرض على غير بينة من أمرها، وانسحبت الصفة على كل فعل يتم على غير بينة أو تبصر فهو فعل عشوائى؛ فالعشوائية سلوك قبل أن تكون نتاجا ماديا، ولا يتوقف النتاج عند وصف منطقة عمرانية بأنها عشوائية، بل إن كل مشروع لم يؤسس على دراسة جدوى تبين لصاحب رأس المال متطلباته واحتياجات السوق هو مشروع عشوائى، وكل قرار اتخذ على غير دراسة وتبصر هو قرار عشوائى.

 

من الخطأ الشائع قول: هذا تخطيط عشوائى!، فالتخطيط أيضا سلوك متى وجد فى شئ انتفت فيه العشوائية، وقد يدور التساؤل حول موقف المناطق الشعبية ما بين التخطيط والعشوائية، وهى الأقدم فى نشأتها قبل ظهور العشوائيات، وقد تتهم منطقة قروية قديمة بالعشوائية وقد أحاطها العمران الحديث وأصبحت داخل المدينة، مع أن أهلها لم يخططوا ولم «يعشْوئوا»، فإن لم تكن مناطقهم قد سبق بناءها تخطيط ما، فقد بنوها بعفوية أو تلقائية، يبنى أحدهم بيتا فيأتى آخر يبنى فى جواره، فلا يرتفع فى البناء بالقدر الذى يكشف فناء جاره أو يجرح نافذة من نوافذه وغير ذلك من آداب الجيرة المرعية وحسن الجوار، فما يعتبره أحد الجيران حقا له يعتبره الآخر واجبا عليه؛ والفرق بين التلقائية والعفوية كما أنك تجد الطقس باردا فترتدى المعطف بتلقائية، فإن لم يكن معك يظل جسدك يرتعد بعفوية، وقد تهطل الأمطار فترفع مظلتك بتلقائية، فإن لم تكن معك تجرى بعفوية لأقرب مكان تحتمى فيه، ومن هنا تبدو التلقائية أقرب إلى السلوك التخطيطى والعفوية أقرب إلى السلوك الغريزى.

 

●●●

 

العشوائية سلوك قد يفتقر أحيانا إلى المبرر أو الدافع لكنه بالتأكيد يفقد الاتزان بين الحق والواجب فى التعاملات الاجتماعية، ومتى تبين وضعا عشوائيا نشأ عنه رد فعل غريزى، أصبح ذلك عفويا ويظل عشوائىا لعدم مراعاة التوازن بين الحق والواجب، فإن روعى ذلك ارتقى درجة ليصبح سلوكا تلقائيا تخلى عن العفوية بإلمامه وتفهمه للظروف المحيطة واختياره حلا مناسبا، فإذا أخذ السلوك التلقائى عامل الزمن فى اعتباره وقدم حلولا شملت التبصر بعواقب الأمور أصبح ذلك سلوكا تخطيطيا وقلت فيه فرص العشوائية وصفاتها، وليست هناك عشوائية تامة وإلا صارت جنونا وليس هناك تخطيط تام محكم وإلا صار منزها، ولكى ندخل إلى عالم العشوائيات ننشد صلاحه لابد أن يؤمن المختصون بدراسات العمران والمجتمع العمرانى بأن المواطن فى إطار ما نقدمه له من سياسات ونرسم له من خطط ونضع مخططات عمرانية ونقيده بإجراءات ضابطة ونصدر قرارات حاكمة فإنه يسعى لتحسين أحواله ويحتال على الرزق وطلب الحياة الكريمة كما ينشدها، فهو ما بين تخطيطه وعشوئته فى حياته يظل كمواطن على حق.

 

المواطن يتصرف بعفوية وتلقائية ويعشوئ بنسب متفاوتة ويعيش نتاج عشوئته ليبدو ما يعيش فيه من عشوائيات كما لو أحاطت به دون فعل منه، لذلك فإن دورنا يبدأ من رفع الوعى من درجة العفوية والتلقائية إلى درجات أكثر إدراكا بمشاكل الواقع وأكثر تبصرا بعواقب الأمور التى تنعكس بالفعل على تغيير السلوك وتحسينه، وهنا نركز على تأكيد مشاكل الواقع لتوليد إرادة التغيير ثم الأخذ بأيديهم للتبصرة بسبل التغيير.

 

«قال إيه اللى رماك على المر، قال اللى أمر منه».. لا تعتقد أن المعشوئين يعلمون كم المشاكل التى تحيطهم، فكثير منهم يعبر لك عن مشاكله المرتبطة بتوصيل المياه أو الكهرباء أو أى مما يرتبط بسد حاجاته الفسيولوجية أو الجسدية، حتى الشكوى من الصرف الصحى قد لا تظهر إلا عند وجود طفح من الشبكة أو انقطاع سيارات الكسح لمن يعتمدون على البيارات، ولكن فى كل الأحوال فالعيشة فى عشوائيات المدينة فى سبيل لقمة العيش أقل مرارا من العيش فى عشوائيات القرى، نعم.. إن كنت تعتبر أن عشوائيات المدينة شوهت وجهها، وأن السلوك العشوائى المستمر سيقضى على نمطها الحضرى، فتأكد أن عشوائيات القرى صارت أضل سبيلا، فلا أنت فى مدينة حضرية ولا أنت فى قرية ريفية.

 

●●●

 

إذًا ما نواجهه هو السلوك العشوائى قبل السعى لتغيير الواقع أو المنتج العشوائى، والدعوى بأن تغيير السلوك من الأمور طويلة الأجل فإنه فى الواقع أمر مؤجل لعشرات السنين والنتائج هى سيادة السلوك العشوائى ومزيد من العشوائية، وأن المواجهة الثنائية على محورى السلوك والمنتج هو أمر ضرورى وليس بعسير؛ التدخل يحتاج إلى تفهم لطبيعة المجتمع المحلى للعشوائية وأسس بناء وتغذية الوعى الجمْعى لدى المجتمع والتى ترتبط خطته بقياس الوعى السلوكى لدى المواطن.

 

وأزعم أن هذا الوعى الجمعى يبدأ بالإدراك التام بمشاكل الواقع مقارنة بحقوق المواطنة والمعدلات والمعايير الإنسانية، ثم التبصير بعواقب الأمور لهذا الواقع لتوليد وحفز إرادة تغييره، ثم إتاحة وتمكين الناس من قنوات لتسييل تلك الإرادة بناء على خطط التغيير والارتقاء المجتمعى، تلك المراحل الثلاث التى تمثل ثلاثية بناء الوعى الجمعى قد تختصر فى كلمات دالة تتناسب مع الطبيعة الثقافية والتراثية لكل مجتمع محلى، فهى البينة والبصيرة والنهج، فقد تكون البينة من الأمر الواقع بشكل مباشر (الحالة الراهنة) ثم التبصر بالعواقب (القدرة على استنباط تطور الأوضاع مستقبلا) ثم وضع الخطة بناء على النهج المتبع (خطوات درء الخطر وجلب الخير)، وقد تكون فى مجتمع آخر هى الإدراك والتوقع والقيم المجتمعية، فإدراك الواقع وتأثيراته المباشرة وغير المباشرة ثم توقع سيناريو تطور الوضع الراهن بناء على التقديرات ثم وضع الخطة بناء على القيم المجتمعية السائدة، وقد تكون فى مجتمع ثالث أو ربما أكثر تحضرا هى الوعى والتنبؤ والإجراءات المدنية، فيبدأ التدخل بتمام الوعى بشكل الوضع القائم ثم التنبؤ بالأوضاع المستقبلية بناء على التقديرات المؤسسية ثم وضع الخطة بناء على القوانين والإجراءات المدنية.

وائل زكى استشاري التخطيط العمراني وعضو مقيم عقاري بلجان طعون الضرائب العقارية، ويعمل كأستاذ للتخطيط العمراني وتاريخ ونظريات تخطيط المدن ومدرب معتمد إدارة المشروعات
التعليقات