على مدى ما يقرب من ستين عاما هى عمر العلاقات الدبلوماسية الرسمية بين مصر والصين، اتسمت الروابط بين الدولتين بالعمق والإيجابية والتعاون، مستمدة جذورها من خلفية ثقافية متقاربة، ورصيد الماضى المشترك خلال مرحلة الكفاح من أجل التحرر والاستقلال ومناهضة الإمبريالية، ومسترشدة بالمبادئ الخمسة التى التزمت بها الدبلوماسية الصينية فى علاقاتها الخارجية وهى:
الاحترام المتبادل لسيادة الدول الأخرى، وعدم التدخل فى شئونها الداخلية، وعدم الاعتداء، والمساواة والمنفعة المتبادلة، والتعايش السلمى.
وباندلاع ثورات «الربيع العربى» سنة 2011، التى أطاحت بالأنظمة السياسية فى عدد من الدول العربية، ونتج عنها العديد من التغيرات والصراعات فى المنطقة، تزايدت الحاجة والرغبة لدى الجانبين إلى تعزيز وتطوير التعاون المشترك فيما بينهما. فمن المنظور الصينى، أعطت التحولات التى تمر بها المنطقة العربية إلى جانب الصراعات الدائرة فى اليمن، وليبيا، وسوريا سببا وجيها للصين للاهتمام بقضايا المنطقة، لا سيما والمنطقة تزود الصين بأكثر من نصف احتياجاتها من النفط. ولما كانت المصالح الاقتصادية تشكل العامل المحرك لتوجهات السياسة الخارجية للصين، فإن انعدام الاستقرار السياسى فى المنطقة العربية يؤثر بشدة على الاقتصاد الصينى. ومن ثم، فإدراكا لأهمية الدور الذى يمكن أن تلعبه مصر بثقلها السياسى والدبلوماسى فى المنطقة كمحور ارتكاز لتحقيق أهداف سياسة الصين الخارجية وتعزيز علاقاتها مع دول المنطقة، بذلت الإدارة الصينية جهودا حثيثة خلال السنوات الأربع الماضية للحفاظ على علاقاتها بمصر خلال مرحلة التحول السياسى الصعبة التى مررنا بها.
***
وعلى الجانب الآخر، سعت الأنظمة التى تعاقبت على حكم مصر بعد 2011 على اختلاف أطيافها السياسية إلى تقوية علاقاتنا الدبلوماسية والاقتصادية مع الصين، لترتقى خلال القمة الرئاسية الأخيرة إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية الشاملة. فلا شك أن اتجاه هيكل النظام العالمى للتغيير، ونجاح الصين فى أن تنتقل من أطراف النظام الاقتصادى العالمى لتكون قاطرته ومحركته؛ قد جعل منها شريكا استراتيجيا وقوة سياسية مؤثرة، يمكن أن تشكل ثقلا موازنا للتحرر من الهيمنة والنفوذ الذى تمارسه الولايات المتحدة فى المنطقة. علاوة على ذلك، فإن الصين تعد سوقا واعدة للمنتجات المصرية، ومستثمرا وممولا لمشروعات البنى التحتية، ومصدِرا رئيسا للمنتجات الرخيصة إلى السوق المصرية، كما أنها تنتهج سياسة جذابة تشدد على احترام سيادة الدول، من دون فرض مطالب أو تدخل فى الشئون الداخلية لشركائها.
وبناء على ما سبق، فإن شراكتنا الاستراتيجية الشاملة مع الصين تجعلنا أمام فرصة حقيقية للاستفادة من الإمكانات الهائلة التى يمكن أن يتيحها السوق الصينى للمنتجات المصرية، إلى جانب إمكانية الاستفادة من التجربة الصينية فى تحقيق النمو والتنمية. وفى هذا الصدد، فإن هناك أربعة محاور ينبغى على الجانب المصرى فى هذه المرحلة أن يمنحها الأولوية والاهتمام وهى:
أولا: مراجعة وتفعيل الاتفاقيات الثنائية بين البلدين:
منذ تدشين العلاقات الدبلوماسية بين الجانبين فى 1956، تم توقيع ما يربو عن 70 مذكرة وبروتوكول واتفاقية للتعاون المشترك فى مختلف المجالات؛ إلا أنه بمراجعة سريعة للوضع الراهن لهذه الاتفاقيات، نجد أن أغلبها مفعلة جزئيا أو غير مفعلة على الإطلاق. ولعل هذا يفسر تضاؤل حجم التبادل التجارى بين الجانبين مقارنة بتجارتهما الخارجية مع دول العالم الأخرى. فعلى سبيل المثال، وكمتوسط للفترة 1994ــ2014، مثلت التجارة البينية المصرية ــ الصينية نحو 4.5% من إجمالى التجارة الخارجية لمصر مع العالم، وهى نسبة شديدة التواضع إذا قورنت بعمق وتاريخ الروابط والجهود المبذولة لرفع مستوى التعاون بين البلدين. ولذا، فالبداية الحقيقية لشراكة اقتصادية مصرية ــ صينية مثمرة تحتاج إلى مراجعة متأنية لهذه الاتفاقيات، من خلال تشكيل مجموعات عمل فنية متخصصة لفحص وتحديث موادها وبنودها، فى ضوء التحديات التى أفرزتها التغيرات السياسية والاقتصادية التى مر بها الجانبان خلال العقود الأخيرة.
ثانيا: إصلاح خلل الميزان التجارى المصرى ــ الصينى:
على الرغم من النمو المستمر لحجم التجارة بين مصر والصين، إلا أنه بتحليل حركة التجارة البينية للدولتين يتضح لنا أنه هناك خلل شديد وعجز مزمن فى الميزان التجارى لصالح الصين، تطورت قيمته من نحو 184 مليون دولار فى عام 1994 إلى نحو 8.3 مليار دولار فى عام 2014. فقد صاحب ارتفاع قيمة الصادرات المصرية للصين من 10.6 مليون دولار فى عام 1994 إلى نحو 330 مليون دولار فى عام 2014، نموا غير مسبوق لوارداتنا من الصين ارتفعت قيمته من 195 مليون دولار فى عام 1994 إلى نحو 8 مليار دولار فى عام 2014.
ولتخفيف عجز الميزان التجارى وإقامة نموذج تبادل تجارى أكثر اتزانا واستدامة، ينبغى أن تركز المفاوضات مع الجانب الصينى على الحصول على «معاملة تفضيلية» للسلع والمنتجات المصرية فى الأسواق الصينية. ومن باب التدقيق ولتجنب الخلط الذى يقع فيه الكثيرون هذه الأيام، فإن ما نحتاجه هو «معاملة تفضيلية»، وليس اقامة منطقة تجارة حرة، فإقامة منطقة تجارة حرة مع الصين يعنى بمنتهى البساطة إغراق السوق المحلى المصرى بالمزيد والمزيد من المنتجات الصينية؛ مما سيكون له انعكاساتٍ شديدة الخطورة على المنتج المحلى، وبالتالى نحن بحاجة لمعاملة تفضيلية لصادراتنا السلعية ــ كتلك التى تمنحها الصين لدول جنوب الصحراء الأفريقية وغيرها من الدول النامية.
كذلك، يجب على الجانب المصرى تفعيل دور المكتب الاقتصادى والتجارى ببكين للترويج للسلع المصرية والتفاوض مع الجهات الرقابية الصينية لبحث الدعم والتسهيلات اللازمة لتسهيل نفاذ السلع الزراعية المصرية ــ التى نتمتع فيها بمزايا نسبية ــ إلى السوق الصينى. بالإضافة إلى ذلك، فيجب أن توجه الهيئة العامة للمعارض والأسوق الدولية والجهات الأخرى المسئولة عن الترويج للصادرات المصرية مزيدا من الجهود لتنظيم معارض للمنتجات المصرية فى الصين، واستقدام مستوردين صينيين لعقد لقاءات مع المصدرين المصريين وإبرام تعاقداتٍ جديدة لتلبية احتياجات السوق الصينى.
ثالثا: تحفيز الاستثمارات الصينية المباشرة:
وفقا لبيانات 2012، بلغ عدد الشركات الصينية العاملة فى السوق المصرى نحو 1230 شركة، بإجمالى استثمارات نحو 480 مليون دولار موزعة على مختلف القطاعات والأنشطة الاقتصادية. ولما كانت إحصاءات صندوق النقد العربى تشير إلى أن إجمالى الاستثمارات الصينية فى العالم العربى قد بلغت نحو 44.2 مليار دولار فى عام 2012، فإن هذا يبين مدى هامشية نصيب مصر من الاستثمارات الصينية فى المنطقة. إن مصر تعتبر إحدى أهم ثلاث أسواق للصادرات الصينية فى القارة الأفريقية، وهى سوق ضخم يضم 90 مليون مستهلك مصرى، فضلا عن ملايين المستهلكين فى الدول التى ترتبط معها مصر باتفاقيات تجارة حرة، ولذلك فيجب على الحكومة المصرية ممثلة فى وزارة التعاون الدولى تكثيف الجهود للتعريف بالفرص الاستثمارية المتاحة فى السوق المصرى، وخلق مناخ استثمارى جاذب للمستثمر الصينى، وتذليل العقبات التى تواجه الشركات الصينية العاملة فى مصر، بما يضمن زيادة تدفق الاستثمارات الصينية للسوق المصرى، إلى جانب نقل التكنولوجيا والخبرة الصينية المتخصصة للجانب المصرى فى مختلف المجالات.
رابعا: تشجيع السياحة الصينية لمصر:
مع ارتفاع المستوى المعيشى للمواطن الصينى، زاد الطلب على السياحة الخارجية، وارتفعت أعداد السائحين الصينيين إلى مختلف دول العالم حتى تجاوزت أعدادهم مائة مليون سائح فى عام 2013. ومن المؤسف وغير المنطقى لبلد ــ مثل مصر ــ تتوافر له مقومات وتنوع لا مثيل له فى منتجاته السياحية ألا يتعدى نصيبه 0.1% (أو نحو 100 ألف سائح) من إجمالى أعداد السائحين الصينيين فى عام 2013!!. ومن ثم، فيجب أن تقوم وزارة السياحة وهيئات ومكاتب تنشيط السياحة بالدور المنوط بها فى التنشيط والترويج للسياحة المصرية فى الصين، وتنظيم المعارض والاحتفاليات والفعاليات السياحية فى المدن الصينية ذات المستويات المعيشية المرتفعة، والعمل على فتح خطوط جوية جديدة بين البلدين لزيادة نصيب مصر من أعداد السائحين الصينيين.
خلاصة القول، إن رفع مستوى العلاقات المصرية ــ الصينية لمستوى الشراكة الاستراتيجية الشاملة يعد فرصة حقيقية تستلزم من الجانب المصرى ضرورة التفاعل معها بشكل إيجابى؛ لتحقيق الاستفادة القصوى منها؛ وإلا فستلقى هذه الشراكة مصير سابقاتها، وسينتهى الأمر لمجرد إضافة بند جديد فى قائمة الاتفاقيات المبرمة بين الجانبين وغير المستغلة من الجانب المصرى. وأختم بسؤال طرحه أحد الوزراء الأفارقة فى ذات السياق:«إن الصين تعرف جيدا ماذا تريد منا وكيف تستطيع أن تحققه، ولكن هل نعرف نحن ماذا نريد من الصين؟ وهل لدينا استراتيجية واضحة لتحقيقه؟»!