قبل أن يرحل الرئيس الراحل ياسر عرفات بمدة وجيزة، أذكر وفى إحدى زياراتى للمقاطعة الفلسطينية، حيث كنت مشاركا وقتها فى المفاوضات العربية الإسرائيلية، أن آسر الرئيس عرفات أن يشير إلى محمود عباس فى معرض تناوله لموقف القيادات الفلسطينية من جدوى استمرار المفاوضات مع الجانب الإسرائيلى، بأنه الرجل الثانى الذى سيحكم بعده وأن الأمر محسوم مسبقا. بالتالى كنا نعلم فى مصر طيلة حقبة التسعينيات بأنه الرجل القادم بقوة فى مواقع الرئيس ياسر عرفات فى السلطة ومنظمة التحرير، وأنه لا ينافسه أحد فى الموقع.
أما اليوم فإن الأوضاع تغيرت والولاءات تبدلت والعواصم تدخلت، وها هو العالم وغير العالم يفتى فى مسألة الخلافة الفلسطينية، ويزج بأسماء دول وحكومات تطرح مرشحيها فى بورصة الأسماء الفلسطينية المطروحة، الأمر الذى جعل الرئيس الفلسطينى محمود عباس، يحذر من تدخل بعض العواصم العربية فى القرار الفلسطينى. والمسألة يقينا ليست كما تسوق أقلام وتوجه شخصيات ربما تكون غير ملمة أصلا بالمشهد الفلسطينى العام، وتنقل عن تقارير غربية وإسرائيلية مجهلة لتروج بمن القادم فى المنصب وتقحم باسم مصر فى المشهد الفلسطينى، وكأن مصر ستختار القيادى البديل، وأنها ستحدد ومن الآن الرجل القادم بعد الساعة الأولى لاختفاء الرئيس محمود عباس، وأن أطرافا عربية أخرى تدفع فى الاختيار وتسويق البديل.
بعيدا عن تأكيد المصادر المصرية والفلسطينية أنه لا توجد أزمة فى العلاقات المصرية الفلسطينية، وأنه لا تدخل مصرى فى القرار الفلسطينى فإن ثمة حقائق تفرض نفسها على المشهد الفلسطينى قبل الخوض فى تبعات الموقف المصرى.
• استمرار الانقسام الفلسطينى، وما أدى إليه من تعطيل المجلس التشريعى وعدم الاتفاق على وجود أو عدم وجود رئيس له، وتأكيد حركة فتح أن الدورة البرلمانية انتهت ولم يتم انتخاب هيئة رئاسة جديدة للتشريعى وسينفتح المشهد على سيناريوهات جديدة بعد تأجيل الانتخابات البلدية أخيرا.
• لا يزال منصب رئيس المجلس التشريعى شاغرا، كما أن حركة فتح والرئيس لم يختارا نائبا للرئيس سواء فى فتح أو السلطة أو المنظمة، وليس معروفا من هو الرجل الثانى أو الأشخاص الذين يمكن أن يشغلوا مناصب الرئيس بوصفه رئيسا للسلطة والمنظمة وفتح ولم تعد منظمة التحرير بتكوينها الراهن عمليا الممثل الشرعى والوحيد، برغم تسلمينا أنها كذلك.
• قام الرئيس محمود عباس باتخاذ سلسلة قرارات تكتيكية، منها إعفاء أمين سر اللجنة التنفيذية للمنظمة، ياسر عبدربه، من منصبه وتعيين صائب عريقات فى المنصب؛ وهو ما قد يشير إلى نية الرئيس تعيين عريقات نائبا له، ليكون خليفته فى رئاسة السلطة أو المنظمة، وتأتى هذه القرارات، انسجاما مع قرارات سابقة اتخذها الرئيس عباس واللجنة المركزية لحركة فتح، تمثلت بفصل القيادى فى فتح محمد دحلان فى 12 يونيو 2011.
• تتمثل الشخصيات المطروحة للخلافة فى الساحة الفلسطينية فى الأسماء التالية:
محمد دحلان: وهو مرشح قوى ومطروح برغم وجوده خارج حركة فتح فى الوقت الراهن، وبرغم كل ما يقال عن عودته ضمن القيادات المفصولة، ولديه حضور بارز فى قطاع غزة مع الأخذ فى الاعتبار ضعف حركة فتح غزة، بعد سيطرة حماس على القطاع، ولدحلان علاقات جيدة على المستوى العربى خاصة مع مصر ودولة الإمارات تحديدا يمكن استثمارها فى طرح اسمه فى خلافة الرئيس محمود عباس.
صائب عريقات: وهو يحظى بقدر من القبول الدولى والإقليمى إلى جانب ارتقاء موقعه السياسى بشكل يبدو مخططا له كسكرتير عام للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية بعد عزل ياسر عبدربه، ومشكلة حركة فتح مع عريقات تتمثل فى أنه ليس القيادى التاريخى الذى يمكن الارتكان إليه باعتباره دبلوماسيا أكثر منه سياسيا كبيرا.
جبريل الرجوب: ينتمى لمدينة الخليل وهى مركز هامشى لفتح، ومن قيادات الجهاز الوقائى وهو منافس قوى لدحلان مما سيجعل عليه تحفظا من المحسوبين على دحلان. كل هذه الأمور تضعف من فرصه وليس للرجوب أية علاقات مع أطراف إقليمية أو عربية بارزة والتى تقتصر على موقعه الأمنى فقط.
ماجد فرج: ينتمى إلى بيت لحم وهى موضع أيضا ضعيف لفتح، ومن جهاز المخابرات وسيثير طرح اسمه اعتراض باقى الأجهزة الأمنية الأخرى، وكونه شخصية غير معروفة شعبيا خارج إطار فتح، فكل هذه الأمور تضعف من فرصه، ويرتبط بعلاقات عادية مع مصر والأردن ودول الخليج بحكم موقعه، وهو وجه مقبول أمنيا لكن سياسيا لا يملك أية خبرات فى هذا الإطار.
مروان البرغوثى: هو الأكثر شعبية بين قواعد فتح وقادتها، وكونه مناضلا فهذا يعطيه قوة شعبية واسعة حتى خارج فتح، ولن تقبل به إسرائيل تحت أى مسمى فى الوقت الراهن، حتى لو كان خارج السجن، وبالتأكيد فإن فرص توليه ضعيفة رغم شعبيته فى الضفة الغربية.
رامى الحمد الله: وهو اسم مطروح ومن الممكن أن يتولى مكانه بحكم موقعه كرئيس وزراء، وهو يتمتع بدعم فتح فى شمال الضفة لكنه لا يحظى بدعم عربى وليس له علاقات مع مصر أو دول الخليج، وأخيرا عزام الأحمد: باعتباره مرشحا محتملا نظرا لثقله الداخلى فى حركة فتح، لكنه ليست لديه خبرات فى العمل المباشر مع إسرائيل وليس له نفوذ إقليمى أو عربى.
***
• فى ظل هذه الأسماء وغيرها أيضا يكون السؤال المشروع هل هناك اتفاق على اسم بعينه؟ وهل هذا الاسم «محمد دحلان» شخصيا فى ظل علاقاته العربية وخاصة مع مصر والإمارات؟ وهل ينجح فى العودة إلى حركة فتح بعد أن قبل الرئيس محمود عباس مبدأ عودة المفصولين فى فتح؟ أظن أن الإجابة لن تكون فى يد الرئيس محمود عباس فقط، فمن يعلم ما يدور داخل فتح فى الوقت الراهن يدرك أن الأمر ليس سهلا فى ظل وجود شخصيات مثل زكريا الأغا وأسعد عبدالرحمن وعلى إسحق وحنا عميرة، وفاروق القدومى، ومحمد النشاشيبى وحنان عشراوى وأحمد مجدلانى ورياض الخضرى وغسان الشكعة، وكلها شخصيات متباينة الرؤى والتوجهات، وقد سبق وأن هدد بعضهم بالخروج من اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير. ومن المحتمل اختيار الرئيس محمود عباس، نائبا له من خلال استحداث هذا المنصب، وهو موقع يوازى ما كان يشغله خليل الوزير أبو جهاد، حين كان يشغل منصب نائب القائد العام، وهذا الأمر عبر عنه سابقا مسئولون فى حركة فتح. كما أن الحديث عن أن من سيخلف الرئيس عباس ليس «واحدا» بل «خلفاء»؛ الأول يجب أن يكون لحركة فتح، وهذا من سيقرره مؤتمر الحركة الدورى، الثانى للرئيس عباس كرئيس للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وهذا الأمر يتم من خلال عقد المجلس الوطنى، وانتخاب رئيس جديد للمنظمة وكذلك انتخاب لجنة تنفيذية جديدة، والثالث لرئاسة السلطة الفلسطينية ومن الصعوبة الجمع بين المناصب الثلاثة فى شخص واحد على غرار الرئيس محمود عباس.
هذا جزء من المشهد الفلسطينى بتعقيداته وتفاعلاته، وصحيح أن دحلان وغيره يقدمون أنفسهم كخلفاء للرئيس محمود عباس لكن الأمر يتجاوز ترتيب العواصم على من تتفق، ومن الآن فالمرشح الجاهز ــ وليس بالتسويق السياسى والإعلامى للمرشح أيا كان اسمه يمكن أن يكون مقبولا إذ أن التوافق الفلسطينى الداخلى سيكون وحده الحاسم.
• إسرائيل من جانبها ليست لديها مشكلة فى أى مرشح يقود السلطة أو منظمة التحرير أو حركة فتح، ما دام سيستمر التنسيق الأمنى معها، ويلتزم بنهج ملاحقة العناصر الأمنية، وهى فى هذا الإطار لا تفرق بين دحلان وعريقات والرجوب، وأى مرشح آخر.
أما مصر فتدرك أن قرار الخلافة الفلسطينى شأن فلسطينى خالص ــ ولا اعتبارات عديدة ــ لا نريد الخوض فى تفاصيلها لا يمكن أن تنسق أو ترتب أو توافق على توجه قد لا يقبل به الفلسطينيون أصلا ــ على الأقل وبدون إجراء مصالحة حقيقية فى فتح، وهى وإن تمت ستكون مدخلا حقيقيا ومباشرا للتوافق على مرشح محدد، وأظن أنه سيكون القيادى محمد دحلان، برغم كل ما يتردد وأن مسألة الخلافة قد تحسم أيضا فى حياة الرئيس محمود عباس أمد الله فى عمره.