في الأسبوعين الأول والثاني من شهر سبتمبر الحالي نظمت جامعة القاهرة بالاشتراك مع جامعة براندنبورج للتقنية في كوتبوس بألمانيا ورشة عمل حول التنمية العمرانية المراعية لندرة المياه في مدينة القصير في الفترة بين الثاني والثالث عشر من شهر سبتمبر. وعكف المشاركون في الورشة وهم من خريجي الجامعات المصرية والألمانية مع الأساتذة من الجامعتين ومن أماكن أخرى على دراسة وفهم التحديات التي تواجه مدينة القصير وخاصة ما يسمى منطقة النظام الإيكولوجي البحري والذى يمتد طبقا للدكتورة "أسماء حسن" لثلاثين كيلومترا في البحر ومثلهم في البر وفى هذا الإطار يركز على تحديات توفير المياه الكافية والآمنة للمواطنين كما يبحث في تأثير ذلك على العمران القائم ومكوناته المختلفة وأيضا كيف يمكن أن يؤثر ذلك على تصوراتنا المستقبلية للعمران في القصير.
***
تعتمد فكرة الورشة على أن التنمية العمرانية في مصر وخاصة في المناطق التي لا تتوافر فيها مصادر متجددة للمياه الصالحة للشرب يجب أن تتعامل مع هذا التحدي على مستويات مختلفة وأيضا يجب أن تأخذ في الاعتبار التغيرات المناخية المتوقعة في المستقبل القريب وتأثيرها على ازدياد حدة مشكلة توفير المياه في الوقت الذى من المتوقع فيه زيادة عدد السكان بصورة كبيرة.
ودرس المشاركون بصورة أكثر تفصيلا عدة مناطق متنوعة في مدينة القصير: أولها مناطق التنمية السياحية وثانيها المناطق السكنية وثالثها المناطق الصناعية ورابعها المناطق التاريخية وخامسها المناطق المحيطة بمخر السيل الرئيسي بالمدينة. والهدف هو أولا فهم التحديات التفصيلية لكل من هذه المناطق ثم بلورة رؤية أولية للتعامل مع المياه بصورة مستدامة مع دراسة التأثير المحتمل للتغير المناخي ثم اقتراح أفكار ومبادئ أولية للتنمية العمرانية في المدينة بشكل عام وأيضا لواحد أو اثنان من التدخلات المحدودة والتي يمكن أن تحدث فارق مؤثر في التعامل مع المياه في المدينة بما يسهم في تحسين نوعية الحياة في المدينة في المستقبل القريب في كل المناطق التفصيلية.
ولتمكين المشاركين من المساهمة بفعالية في الورشة قام مجموعة من المحاضرين المتميزين بإلقاء محاضرات منها الخاص بالسياق التاريخي للمدينة ومنها ما يركز على كيفية تصميم المناطق العمرانية المفتوحة في ظل ندرة المياه في مصر ومنها ما يركز على علاقة البيئة الطبيعية والعمران والتحولات الرئيسية التي شهدتها المدينة ومنها ما يركز على المنطقة التاريخية في القصير ومنها أيضا ما يعرض لخطة الحكومة في التعامل مع المدينة من خلال المخطط العام للمدينة والذى ينتظر الاعتماد النهائي ويركز بصفة خاصة على المخططات الخاصة بتوفير المياه الصالحة للشرب والتعامل مع الصرف الصحي. وتركز أيضا بعض المحاضرات على سيناريوهات التغير المناخي في البحر الأحمر عموما ومنطقة القصير خصوصا. وتتناول أحد المحاضرات البيئة البحرية في المنطقة والتأثيرات الواقعة عليها خاصة بسبب الأنشطة البشرية. كما تعرض إحدى المحاضرات للابتكارات التقنية الخاصة في مجال المياه والصرف وكيفية إدماجها في البيئة العمرانية.
ونظم في إطار الورشة زيارة لمدينة قفط ثم العبور لمدينة نقادة عبر النيل من مدينة قوص. وتبدأ تلك الرحلة من "وادى العمبجي" في القصير ثم عبر وادى الحمامات حتى النيل. وعبر الواديان رأى المشاركون بيئة طبيعية لم يتخيل بعضهم أنها موجودة في مصر كما توقفنا العديد من المرات في الوادي الأول للتعرف عن قرب على أشجار الأكاسيا أو لرؤية أحد الآبار الذى لم يعد مستخدما وكان يمد المدينة بالماء مع بئرين آخرين بالإضافة للمياه المنقولة من الوادي أو الآتية عبر السفن.
كما توقفنا لرؤية بعض المحطات الرومانية الثمانية والتي أنشأت لتوفير الراحة بعد رحلة يوم شاق عبر الوادي في اتجاه القصير. ورأينا من بعيد أبراج الحراسة التي أنشأها الرومان أيضا للدفاع عن القوافل ضد المعتدين المحتملين. وعبرنا قريبا من منجم الفواخير للذهب والذى توقف العمل به منذ فترة بالرغم من وجود بعض مظاهر الحياة البسيطة حوله. ثم مع بداية وادي الحمامات (وادى العمبجي هو الوادي الشرقي الذى يقوم بتجميع المياه وقت السيول ويوصله للبحر عند القصير حاملا المغذيات للبيئة البحرية كل عدة أعوام وهو ما كان مدمرا أحيانا. أما وادى الحمامات فهو الوادي الذى ينقل المياه وقت السيول للنيل) ويحتوى وادى الحمامات على بعض المحاجر التي كان يستخدمها الفراعنة ومن بعدهم الرومان وتمثل مزارا سياحيا رائعا وللأسف ليس مستخدما.
***
كنا في تلك الرحلة على تنسيق مع القائمين على الأمن في مدينة القصير ولكننا عندما وصلنا لقوص وفى انتظار العبارة النيلية التي تنقل الأهالي لنقادة لتأخذنا نحن أيضا أصر أحد مسئولي الأمن على ضرورة أن يصطحبنا لتأميننا نظرا لوجود أجانب معنا ولم نمانع لأن ذلك لم يؤدى لتأخير في مواعيدنا كما أن أفراد الشرطة طيبين وكرماء في تلك المنطقة. وبعد عبور رائع لنهر النيل والتمتع بواحدة من أجمل البقاع الخاصة بالنهر زرنا نقادة والتي تتابعت عليها الحضارات منذ العصر الحجري وحتى الآن ورأينا عمارة محلية رائعة للأسف لم نكن نعلم عنها الكثير قبل تلك الزيارة.
وأخيرا حان وقت العودة وقدرت أننا سنعود من نفس الطريق (قفط – القصير) وللأسف أصرت قوة التأمين المصاحبة وطبقا لتعليمات المسئول عن الأمن في محافظة قنا بعدم استخدام هذا الطريق وضرورة استخدام طريق قنا- سفاجا– ثم القصير. كنا في نهاية اليوم وكنت منهكا للغاية وأتكلم بصعوبة وعبثا حاولت إقناع المسئول الأمني لتركنا نعود من حيث أتينا لأن الطريق الآخر سيضاعف زمن الرحلة ويضيف حوالى ساعتين لهما تأثير سلبى على الجميع. واستخدمت كل ما لدى من حجج حتى أنى اقترحت عليه أنه إذا كانت المشكلة في الأجانب السبع الموجودين معنا فليتفضلوا بأخذهم معهم وإيصالهم بالطريق الآمن الذى يرون ويتركونا نحن المصريين لحالنا مثل عشرات المصريين الذين يعبرون طريق قفط القصير والذى لا توجد به تغطية لشبكة المحمول (طبعا يمكن عمل تغطية على هذا الطريق على الأقل لكى تستخدم في حالة الطوارئ) ولكن حتى هذا لم يفلح واضطررنا للانصياع.
لم تكن نهاية سعيدة للأسف لواحد من أفضل أيام الورشة التعليمة وأكثرهم إفادة للمصريين والأجانب ونتمنى أن يتحول هذا الطريق في القريب لمزار سياحي مؤمن لأنه بالتأكيد يضيف الكثير من العلم والمعرفة والجمال للزائرين. وما يزيد من أهميته أن النيل عند قوص أو نقادة يمهد لرحلة بحرية قصيرة (ساعتين أو ثلاثة) لمدينة الأقصر.. ربما نملك أكثر من أن نتمنى فقط!
أستاذ العمارة بجامعة القاهرة