فى عام 1998 تمّ إبرام اتفاقية روما الخاصة بإنشاء المحكمة الدولية. غير أن المحكمة لم تقم إلا فى عام 2002. وهذا يعنى أن كل الجرائم ضد الإنسانية التى ارتكبت قبل هذا التاريخ لا يجوز للمحكمة الدولية أن تنظر فيها. من هذه الجرائم مثلا إسقاط طائرة الركاب الأمريكية «بان أميركان» فوق مدينة «لوكربى» فى اسكتلندا فى عام 1988. ومنها أيضا جريمة تصفية 1200 سجين ليبى فى عام 1996. والجريمتان من أعمال الزعيم الليبى الراحل معمر القذافى وحكومته.
هذا الشهر سوف تشكل الأمم المتحدة محكمة جديدة. فقد انتهت فترة انتداب المدعى العام مورينو أوكامبو الذى يعتبر أن أهم ما قام به هو اتهام الرئيس السودانى عمر البشير بارتكاب جريمة ضد الإنسانية فى دارفور. وهو اتهام تطعن فيه الحكومة السودانية وترفضه، إلا انه لايزال قائما حتى الآن.
ويترشح لخلافته أربعة قضاة من دول مختلفة. أما هيئة المحكمة فتتألف من 18 قاضيا تنتهى فترة انتداب ستة منهم هذا الشهر أيضا. ويفترض تعيين بدلاء عنهم. أما المرشحون فكثيرون، ويراعى فى اختيارهم تمثيل القارات، كما يراعى تمثيل المرأة. ويفترض بالقاضى المرشح ألا يكون متوليا لأى منصب قضائى فى بلده. ويبلغ عدد المرشحين حتى الآن 19 قاضيا. ويتقاضى الواحد منهم راتبا سنويا يبلغ 180 ألف يورو على الأقل. أما محامو المتهمين فإن تعويضاتهم تزيد على هذا المبلغ كثيرا.
وأمام هيئة المحكمة التى ينتظر إعادة تشكيلها هذا الشهر قضايا تتعلق بجرائم ضد الإنسانية ارتكبت فى عدد من الدول الإفريقية. وهذه الدول هى: الكونغو وكينيا وشاطئ العاج ويوغندة والسودان وأفريقيا الوسطى. ولم تدرج ليبيا فى قائمة هذه الدول لأن الحكومة الليبية الجديدة رفضت طلب تسليم سيف الإسلام القذافى وعبدالله السنوسى رئيس جهاز المخابرات السابق إلى المحكمة الدولية، وقررت محاكمتهما فى ليبيا وفقا لقانون الجنايات المحلى. وتجرى المحكمة الدولية تحقيقات فى قضايا أخرى يمكن إحالتها اليها ارتكبت فى أفغانستان وكولومبيا وغزة وجورجيا وهندوراس ونيجيريا وغينيا وحتى فى كوريا.
وسبق للمحكمة أن أدانت حتى الآن 26 شخصا جميعهم من إفريقيا. ولا تزال المحكمة تحاكم أربعة كونغوليين وواحد من رواندا بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية فى الكونغو. ولعل الرئيس الكونغولى السابق توماس لوبانجا هو الرئيس الإفريقى الوحيد الذى اعتقل منذ العام 2006 ولا يزال يحاكم حتى الآن. ويقدر عدد ضحايا الحرب الأهلية فى الكونغو وحده بنحو خمسة ملايين انسان. وكان رئيس ليبيريا السابق قد اعتقل وحوكم، وحُكم عليه بالسجن. وهو لا يزال حتى اليوم يقضى عقوبته.
●●●
وهناك محكمة دولية ــ محلية مشتركة خاصة بالجرائم ضد الإنسانية التى ارتكبت بين عامى 1975 و1979 فى كمبوديا على أيدى «الخمير الحمر». وتعقد المحكمة جلساتها فى العاصمة «فنوم بنه» أى فى المكان الذى ارتكبت فيه تلك الجرائم التى ذهب ضحيتها 1.7 مليون إنسان. ورغم أن هذه المحكمة بعيدة عن المثالية، إلا أن مجرد انعقادها فى كمبوديا ذاتها يضخ ارتياحا نفسيا لدى عائلات الضحايا. ويتخطى الكثير من الإجراءات الإدارية التى تواجهها عادة المحكمة الدولية فى لاهاى بهولندا. ويجلس قضاة المحكمة فى كمبوديا خلف حاجز زجاجى لا يخترقه الرصاص ضمانا لسلامتهم من أى عملية انتقامية.
وكانت هذه المحكمة تشكلت فى عام 2003، وبلغت تكاليفها حتى الآن 40 مليون دولار. وهى تحاكم مجرمى حرب أصبحوا فى العقد الثامن من أعمارهم. وقد أصدرت حتى الآن حكما واحدا على مدير سجن «سلانغ» الشهير الذى دخله 14 ألف سجين ولم يخرج منه حيا سوى 12 سجينا فقط!!
وهناك محكمة مماثلة فى بنجلادش. ومهمتها محاكمة المسئولين عن اختطاف وتعذيب وقتل مئات الآلاف من البنغاليين الذين كانوا يطالبون فى عام 1971 بالانفصال عن باكستان. والمعروف أن بنجلادش كانت حتى ذلك الوقت جزءا من باكستان. وكانت تعرف باسم باكستان الشرقية. إلا أن حركة استقلالية انفصالية قامت بزعامة مجيب الرحمن. وقد تصدى لها الباكستانيون معززين بقوات وعناصر بنغالية متعاونة مع الباكستان. ومنهم من يحاكم اليوم بسبب الجرائم التى ارتكبت ضد الاستقلاليين البنغال. وقد اتهم حسين سيادى بارتكاب جريمة جماعية ضد معارضى الوحدة مع باكستان رغم انه اليوم يتزعم «الجماعة الإسلامية» فى بنجلادش. وهناك ست شخصيات أخرى متهمة معه وتحاكم أمام المحكمة الدولية فى العاصمة دكّا.
وفى سريلانكا، ورغم الحرب الأهلية التى عصفت بها، فان الحكومة الحالية تعارض انشاء محكمة دولية لمحاكمة المسئولين عن جرائم القتل الجماعى التى ارتكبت أثناء الحرب التى جرت فى عام 2009 ضد «نمور التاميل». وكان التاميل يحاولون الانفصال بشمال الجزيرة.
وقد اعترف قائد الجيش السيريلانكى السابق بأنه تلقى أوامر رسمية حكومية بإطلاق النار على السجناء السياسيين من التاميل وتصفيتهم. وبدلا من محاكمة هؤلاء المسئولين أمام المحكمة الدولية، فقد أدانت محكمة محلية قائد الجيش السابق وحكمت عليه بالسجن لمدة ثلاث سنوات بسبب تصريحاته!!
●●●
قد لا تكون المحاكم الدولية مثالية فى أعمالها. وقد تتأثر بالصراعات السياسية فى الدول التى تحاكم مسئولين سابقين فيها، إلا أن لهذه المحاكم فضيلة كبيرة وهى تضميد جراحات دامية، وإثبات ــ أو محاولة إثبات ــ أمر أساسى مبدئى وهو أنه لا جريمة من دون عقاب ولو طال الزمن!.