استراتيجية عظمى لتحقيق الحلم - جميل مطر - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 8:37 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

استراتيجية عظمى لتحقيق الحلم

نشر فى : الخميس 25 ديسمبر 2014 - 7:45 ص | آخر تحديث : الخميس 25 ديسمبر 2014 - 7:45 ص

الكتابة عن الصين متعة لا تعادلها إلا متعة الكتابة عن أشخاص نحبهم واشتقنا لهم أو أشياء نتعلق بها وهى ليست معنا. أليست متعة الكتابة عن دولة كانت على امتداد ثمانية عشر قرنا الاقتصاد الأقوى فى العالم، قبل أن تتكالب عليها القوى الغربية، لتفتك بها وتذلها كما لم تذل دولة أو أمة أخرى.

هذه الدولة، أو هذه الأمة، خرج كبراؤها قبل أيام ليعلنوا أنهم انتهوا من التخطيط لتحقيق هدفين «مئويين»، هدفان يتحققان فى قرن واحد. أولهما يتحقق فى عام 2020 عندما يصل دخل الفرد الصينى إلى مستوى متوسط دخل الفرد فى المجتمعات المتقدمة، وثانيهما يتحقق فى عام 2050، عندما يصير الاقتصاد الصينى الأكبر فى العالم. عندئذ يحق للصين أن تستأنف مسيرة، يعتقدون أنها، خالدة.

•••

كانت الأسابيع الأخيرة حافلة بكل ما يهم المتابع للشأن الصينى. فللمرة الأولى وأمام ألوف الخبراء المهتمين بتطور الصين، أعلن الرئيس «شى»، التخلى عن الالتزام بحكمة قائد الانفتاح ومشيد الدولة الحديثة الرئيس دينج تشاو بنج. كانت الحكمة أو بمعنى أدق «الوصية» تقضى بأن يسلك حكام الصين من بعده سلوك التواضع فى السياسة الخارجية وعدم الاستعجال فى بناء الدولة لتصبح الدولة الأعظم اقتصادا. لم يعتقد الرئيس دينج فى ضرورة التدخل بقوة أو بسرعة لتنفيذ خطط التنمية والانطلاق. بل اختار العمل بقاعدة اتركوا المياه تتدفق وتسلك مساراتها التى تراها مناسبة حتى تتساوى كل المستويات، وحتى تصل إلى مستواها الذى تستحقه وهو الذى تفرضه الطبيعة والتاريخ وإرادة تغيير.

ولأول مرة، خلال عقود عديدة، يخرج خبراء وسياسيون من الحزب الشيوعى الصينى ليؤكدوا بشكل أو بآخر، أنهم اقتنعوا بأن حملات التوعية والتوجيه التى كانت محل فخر الحزب الشيوعى الصينى بين أقرانه من الأحزاب الأشهر فى العالم، لم تعد مجدية. السبب ببساطة شديدة وحسب رأى المنظرين فى الحزب، هو أن «المواطن تغير». مواطن هذه الأيام يختلف عن مواطن القرن العشرين، وعن مواطن أى مرحلة من مراحل بناء الدولة الحديثة. هذا المواطن، وربما ليس فى الصين فقط، له مطالب ومنشغل بقضايا ومؤمن بأفكار ويلتهى بممارسات وتفضيلات، كلها تختلف عن مثيلاتها عند مواطن الأربعينيات من القرن السابق، أى مواطن فى مرحلة قيام الدولة الحديثة، وعند مواطن الستينيات، أى مواطن مرحلة الثورة الثقافية، بل وحتى مواطن التسعينيات. لم تعد ممكنة، مهمة إقناع الإنسان العادى بأن الحزب الشيوعى الصينى شريف ونظيف، ولكن يمكن إقناع هذا المواطن بأن هذا الحزب مازال قادرا على تلبية مطالبه اليوم وطمأنته على مستقبله ومستقبل أولاده، ومازالت لديه الكفاءة لصياغة «الحلم الصينى» وتحقيقه.

•••

ولأول مرة، على امتداد ثلاثين عاما، يعلن فى الصين عن بدء مرحلة التغيير الجذرى فى توجهات الاقتصاد الصينى من مرحلة الانتاج للتصدير إلى مرحلة الانتاج للاستهلاك. بمعنى آخر، لن يجرى تعريف الصين بعد اليوم بالمصنع الكبير حيث العمال بالملايين ووظيفتهم إنتاج سلع تستهلكها شعوب أخرى. من حق الصينيين الآن أن يحصلوا على مكافأة مناسبة لجهود الثلاثين عاما، هذه المكافأة هى الاستمتاع بما ينتجون. هذا التحول فى العقيدة الاقتصادية للصين يعنى أيضا أن المسئولين الصينيين صاروا على ثقة من أن الصين قادرة على أن تحقق فى عام 2020 أول هدف من هدفى القرن وفى عام 2050 الهدف الثانى، والأعظم.

•••

لأول مرة تكشف الصين عن «استراتيجية عظمى» للعمل الوطنى والدولة معا. علمنا بتفاصيل هذه الاستراتيجية من خلال نتائج «المؤتمر الثانى للسياسة الخارجية الصينية».. لا يكفى أن نعترف هنا بأن فكرة المؤتمر القومى العام لمناقشة السياسة الخارجية كبند أوحد، تستحق الثناء، وبخاصة من جانب من دعوا إلى عقد مؤتمرات مماثلة فى بلادهم ولم تستجب حكوماتهم. ليس سرا أن معظم كبار المسئولين فى دول كثيرة يعتقدون أن السياسة الخارجية يجب أن تبقى سرا غامضا، فهى المجال الوحيد حتى فى الدول الديمقراطية الذى يستطيع المسئولون تحقيق انتصارات سهلة. هى أيضا مصدر نفوذ وقوة، وفى الوقت نفسه مصدر جاه، وبخاصة عندما يعز الجاه ويضعف النفوذ وتنحسر القوة.

انطلق المؤتمر وكان يضم خبراء وباحثين وأعضاء مراكز للعصف الفكرى وسفراء حاليين وسابقين وأساتذة علاقات دولية وممثلى شركات كبرى ومصالح اقتصادية قوية، كان انعقاده فرصة للاستماع إلى وجهات نظر متعددة فى السياسة الخارجية، وفرصة أكبر للحصول على «توافق وطنى عام» على الخطوط العامة للسياسة الخارجية للصين فى المرحلة القادمة. لم يكن وحده الشكل الشىء الهام فى المؤتمر بل كذلك كان المضمون، إذ أرسى المؤتمر، وخطاب رئيس الدولة، أسس ومعالم الاستراتيجية العظمى. اخترت منها النقاط التالية:

أولا، انتهاء العمل بتوجيه الرئيس دينج تشاو بنج، والبدء فورا بوضع سياسات أقل تواضعا وأخذ قرارات أشد حسما وحزما. نجحت توصية الرئيس دينج وحققت أغراضها فتغيرت الصين وصعدت إلى مرتبة أعلى تستحق عندها رؤية جديدة.

ثانيا، لن تكون التنمية الاقتصادية هدف السياسة الخارجية كما كانت خلال مرحلة النهوض. أهداف السياسة الخارجية يجب أن تتجاوز من الآن فصاعدا مجرد تحقيق نسب نمو أعلى، إلى تحقيق «الحلم الصينى» بتغيير سمعة الصين من مجتمع ينتج للتصدير إلى مجتمع ينتج ليستهلك ويسعد ويعيش المستوى الأفضل.

•••

ثالثا، هذا التغيير فى الأهداف يتطلب تغييرا مماثلا فى الجوهر والأدوات والأساليب. السياسة الخارجية الصينية ستعتمد منذ الآن على أساليب صينية وأدوات صينية وأفكار صينية، لذلك تقرر زيادة استخدام القوى الناعمة الصينية.. كثيرون فى الصين لم يؤمنوا عبر القرون بأن ثقافتهم «عالمية»، ثقافة تستعصى على التبشير بها أو الترويج لها. ساد هذا الاعتقاد فى عصور كان المفكرون وبخاصة البيروقراطيون الماندرين يعتقدون أن الصين هى العالم، وما يقع خارج حدودها هو خارج الحضارة وبعيد تماما عن فكر الصين وثقافتها.

خلال النهوض وتوسع الأسواق، أى خلال تجربة السنوات القليلة الماضية اتضح أن اللغة الصينية صارت فى بعض بلاد العالم اللغة الأجنبية الأولى. انتشرت معاهد «كونفوشيوس» الثقافية تنافس وتتفوق فى بعض الأحيان على المجلس البريطانى والاليانس فرانسيز وجوته وثيرفانتس، التى تروج للثقافات الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإسبانية على التوالى. للصين الآن ثلاثمائة معهد، وتقضى الاستراتيجية الجديدة بزيادتها إلى 1000 معهد حول العالم.

رابعا، اتضح ميل الاستراتيجية الجديدة نحو رفض سياسات الأحلاف، وإقرار مبدأ الشراكات بديلا للأحلاف. كانت الصين مثل معظم الدول النامية ضحية سياسات الأحلاف، ولاشك أن قادتها لن يغفروا للغرب حصاره الاقتصادى الطويل للصين الشعبية والأذى الذى لحق بشعبها. فى الوقت نفسه، يدرك المسئولون الصينيون حقيقة أخرى، وهى أن إقامة الأحلاف سياسة كلفت الدول العظمى الكثير، ماديا ومعنويا. يكفى النظر إلى مجمل ما تكلفته الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتى من أموال ومصالح ومصادر قوة وإمكانات بشرية من أجل المحافظة على أحلاف عسكرية وسياسية تأتمر بأمرها. إنه درس لا يمكن لدولة تقف على عتبة مرتبة «لدولة عظمى» أن تتجاهله، لذلك اختارت أسلوب الشراكات التجارية والمالية والثقافية تملأ به الفراغ الناتج عن التخلى عن الأحلاف فى العلاقات الخارجية.

•••

خامسا، تحددت أمور خمسة غير قابلة للتغيير، أو بمعنى أدق، تحرص الصين على ألا يمسها التغيير وهى:

ــ السعى الدائم من جانب الصين لتشجيع الدول الكبرى والناهضة على إقامة نظام دولى متعدد الاقطاب.

ــ العولمة مسيرة مستمرة، ولن تتوقف. ويجب ألا تتوقف.

ــ السعى المتواصل والمتصاعد من ناحية الصين لإصلاح مؤسسات النظام العالمى الراهن.

ــ لا أمل كبيرا فى أن يحدث تغيير جذرى فى الوضع الإقليمى المحيط بالصين، ولا تفكير أو سعى لتغييره.

ــ إصرار متجدد على المحافظة على إقليم آسيا الباسيفيكى، متمتعا بالسلام.

•••

سادسا، ترتب الصين فى استراتيجيتها الجديدة مواقع الدول فى اهتماماتها الخارجية حسب الجدول الآتي: دول الجوار، أى اليابان والهند واستراليا ودول جنوب شرق آسيا وروسيا، وبعدها تأتى القوى الدولية الكبرى، مثل أمريكا وبريطانيا وفرنسا والاتحاد الأوروبى وألمانيا. تليها دول العالم النامى، وهذه تستعد لها الصين بآليات جديدة وخطط لبناء مؤسسات «دولية» مختلفة عن المؤسسات القائمة.

سابعا، بالنسبة للشرق الأوسط، يبدو أن مزاج الحرص والحذر قد تغلب على كل إغراءات التدخل للمساهمة فى حل مشكلات الإقليم. واقع الأمر من وجهة نظرى هو أن الصين مصابة بما يشبه «شيزوفرينيا دبلوماسية»، فالشرق الأوسط هو الإقليم الأكثر أهمية اقتصادية كمصدر للطاقة التى تحتاجها الصين، وفى الوقت نفسه، هو الإقليم الأشد توترا ومشكلاته هى الأعقد والأصعب والأخطر، وخبرة الصين فيه محدودة. وربما كان أحد أهداف التركيز على مشروع طريق الحرير فى الاستراتيجية الصينية الجديدة هو الالتفاف حول حالة اللامبالاة الصينية تجاه تفاصيل مشكلات الشرق الأوسط، ومحاولة خلق «شراكات» فى الإقليم ترفع عن الصين عبء التدخل فى مشكلات المنطقة.

•••

لا أحد، فى الصين أو فى الغرب وفى روسيا، غافل عن حقيقة أنه مهما فعلت الصين لإقناع العالم الخارجى بأن وصولها إلى مقاعد القيادة الدولية لن يجعلها دولة عظمى، بالمعنى السيئ للكلمة، فلن تفلح. للنجاح ثمن وتكلفة، وبخاصة إذا كان العالم على اتساعه ساحة هذا النجاح. لقد كان الرئيس أوباما الأسرع بين زعماء الغرب لتوجيه النصح إلى الصين، وأظن أنه صادق فى نصيحته، وفى تحذيرها من أن رئيسها «شى» يسرع الخطى بأكثر مما كان متوقعا ومما تعود عليه العالم الخارجى. أمريكا تخشى اليوم الذى تتربع فيه الصين على أحد مقاليد القيادة الدولية. أمريكا ودول كثيرة تخشى الصعود المتسارع للصين. وأظن أن نفس هذه الدول الكثيرة تتابع بنفس هذه الدرجة من الاهتمام والخشية «الاستراتيجية العظمى أيضا» التى ينتهجها الرئيس أوباما، وهدفها أن يرسو بالسفينة الأمريكية بسلام وهدوء، بعد رحلة قرابة القرنين من التوسع والازدهار والقيادة الدولية.

•••

أتصور أنه من المفيد قراءة خطاب الرئيس الصينى فى المؤتمر الثانى للسياسة الخارجية الصينية على ضوء السياسات الأمريكية الراهنة. فالرئيس الصينى يبدو كمن يحاول مساعدة أوباما، ليكون انحدار أمريكا متدرجا وهادئا وسلميا. على الجانب الآخر يبدو الرئيس الأمريكى كمن يحاول إرشاد القيادة الصينية لتتجنب تسريع فى صعود بلادها. الكل يدرك حق الإدراك أن التاريخ حافل بالأمثلة عن كوارث تسبب فيها سقوط مفاجئ وعنيف أو صعود مفاجئ وعنيف لإمبراطورية أو قوة أعظم. الصين تعلم هذه الحقيقة، وأمريكا أيضا، ونحن كذلك.

•••

نقلوا عن كونفوشيوس عبارة «هذا الذى يتعلم ولكنه لا يفكر شخص ضائع، أما هذا الذى يفكر ولكنه لا يتعلم فهو شخص فى خطر داهم».

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي