لم يكن الحديث الرئاسى عن الاستعداد الكامل لمغادرة السلطة وليد لحظة ضيق عابرة أو خشية مظاهرات احتجاج كبيرة فى الذكرى الخامسة لثورة «يناير».
أن «يمشى الرئيس»، أى رئيس، فهذه ليست المشكلة.
لا التاريخ سوف يتوقف جريانه ولا الدولة سوف تعلن نهايتها.
المشكلة الحقيقية أن مصر المنهكة تبحث بالكاد عما يطمئنها على استقرارها دون أن تتخلى عن رهاناتها على بناء دولة حديثة ديمقراطية وعادلة.
إن أى إخفاق جديد تترتب عليه نتائج غير محتملة تأخذ من البلد قدر الاستقرار الذى تحقق دون أن يكون هناك ما يؤشر إلى أية احتمالات تؤسس لأوضاع أفضل.
بالتعريف هذه لحظة اضطراب صامت، فلا استمرار السياسات الحالية ممكن ولا الرهان على المجهول مقبول.
رغم الارتفاع الذى لا يمكن إنكاره فى معدلات عدم الرضا إلا أن الميل العام يمد فى حبال الصبر خشية أن تنقطع كل الحبال.
بكل قياس متاح لا يوجد ما يزعج كثيرا فى ذكرى «يناير»، فلا جماعة الإخوان المسلمين بوضع يخولها الحشد والتعبئة ولا الشباب المسيس متحمس لمشاركة واسعة فى أية فاعليات محتملة.
فلماذا قطع الرئيس سياق خطاب مكتوب فى احتفالية المولد النبوى الشريف ليتحدث عن أنه إذا كانت هناك إرادة شعبية تطالبه بالرحيل فسوف يرحل طيعا؟
الفكرة ليست طارئة تماما على تفكيره أو فى خطابه العام.
فى لحظات الصعود قبل أن يتسلم رئاسة الجمهورية بدا متأثرا بالمشاعر العامة التى أحاطته إلى درجة تفوق أية توقعات.
كان يدرك حجم الأزمات الوجودية التى تنتظره وهاجسه الرئيسى أن يرتفع إلى مستوى تحدياتها.
أحد أسباب الضيق الذى بدا على وجهه، وهو يتحدث عن «المشى خارج السلطة»، أنه يستشعر أن قوة الدفع الهائلة التى صعدت به إلى السلطة شبه تعطلت وأن شعبيته لم تعد على مستواها السابق.
لم يكن يناور بقدر ما كان يعبر عن مشاعره، فأية مناورة من هذا القبيل تأخذ ولا تضيف، تضعف ولا تقوى.
بكلام آخر نحن أمام رجل يكاد لا يصدق أن الجهود المضنية التى يبذلها فى مشروعات البناء وحلحلة الأزمات لا تجد صدى فى الرأى العام.
يقول عادة إنه لا ينام سوى ساعتين فى اليوم، وهذا إيجابى من زاوية وطأة تحمل المسئولية غير أن الحاجة إلى الراحة من المتطلبات الإنسانية لحسن الوفاء بالمهام الرئاسية بأى مكان بالعالم.
الدخول فى تفاصيل المشروعات يراه ضروريا غير أنه يعكس مدى التخريب الذى ضرب بنية الدولة، فلا أحد يعمل وحده.
قوة مؤسسة الرئاسة من مدى ما يتوافر لها من كفاءات وخبرات سياسية قادرة على الوفاء بمهام التفكير والتخطيط والمتابعة.
وهذا ما تفتقده بفداحة حتى الآن.
لديه نزعة لا تخفى للبناء والتشييد وفكرة المشروعات الكبرى تستولى على خياله فى بلد توقف فيه أى بناء جدى منذ نحو خمسة وأربعين عاما.
غير أن مشكلته تحديد الأولويات الصحيحة واستخدام الموارد الشحيحة المتاحة على نحو يتجنب أية إهدارات لا لزوم لها فى مشروعات يمكن تأجيلها أو التخلى عنها.
فى خطابه الأخير لم يتطرق إلى الإعلام ومسئولياته، والحقيقة أن الأزمة فى السياسة قبل الإعلام.
تضييق المجال العام والضيق بالفكرة السياسية نفسها أفضيا إلى فراغ فى الأفكار والتصورات والرؤى.
فى الفراغ تمدد الأمن ونشأت مراكز قوى داخل مفاصله.
بالوقت نفسه عملت جماعات المال على تطويع نظامه لمقتضى مصالحها.
كل ذلك كان سحبا على المكشوف من رصيد الشعبية.
على ما تشى تصريحاته المتواترة يعتقد أن الدور الذى لعبه فى منع انجراف البلد إلى احتراب أهلى يهدد كيان الدولة ووجودها لم يعد يجد ما يكفى من اعتراف به وإقرار بأهميته.
من حين لآخر يذكر بما جرى فى بعض دول الجوار، وأننا مازلنا مهددون بمصائر مشابهة.
يتحدث عن «الذين يريدون هدم الدولة» دون أن يحدد بالضبط الفارق بين النقد الطبيعى لنظامه والانخراط فى التحريض على العنف والفوضى.
المعارضة من طبيعة الديمقراطيات فى العالم كله دون أن تعنى تآمرا وحق التظاهر لا يرادف نزعات التخريب فى أى حساب.
ما يقوله صحيح تماما بشأن ما جرى فى دول أخرى ولا يجوز الاستهتار بمثل هذه الأخطار.
غير أن الإلحاح على هذا الكلام ببعض الفضائيات لتسويغ التجاوزات الفادحة بملف الحريات العامة وحقوق الإنسان يسىء إلى الحكم كله رغم نجاحاته فى وقف أى انجراف محتمل لانهيار الدولة.
أمام الأزمات التى تتراكم تصاعد منسوب ضيقه.
فى لقاء جمعه مع شخصية رفيعة قبل حديث «المشى من السلطة» قال دون مقدمات طويلة: «ولا يوم واحد بعد الأربع سنوات» قاصدا أنه لن يجدد رئاسته ثانية.
الكلام مبكر فهو لم يكمل بعد نصف ولايته الأولى.
أين وجه الخلل الذى أوصله إلى هذا الحد من الضيق الإنسانى قبل السياسى؟
هذا هو السؤال الأكثر جوهرية فى قصة «المشى خارج السلطة».
الإجابة بوضوح: غياب البوصلة السياسية.
فالبلد متخم بالأزمات دون أن تكون هناك بوصلة سياسية ترشد الخطى وتعين على الصبر وترفع أسقف الأمل.
فى كل ملف أزمة مستعصية تضيق الموارد عن تخفيف قسوتها وتقصر السياسة عن لعب أى دور فى إلهام التغيير.
لا خطاب سياسى ولا رؤية معروفة تحدد الانحيازات الكبرى وتعلن من هو.
فى غياب أية بوصلة تقوضت كل الرهانات الكبرى.
هنا بالضبط بدأ التراجع فى شعبية الرئيس حتى وصل إلى حديث «المشى من السلطة».
بأية نظرة موضوعية لأثقال الأزمات التى تعترض مصر فإنه يصعب حلها بالأمنيات وحدها دون «عمل وصبر» على ما قال فى خطابه المثير.
غير أن الصبر على مكاره الطريق يستدعى أن تكون الخيارات معلنة والسياسات متسقة معها والسعى صريحا لحل المعضلات الرئيسية.
قبل ذلك الاعتراف الواضح بالأزمة، فإنكارها لا يساعد على حلها.
كلام الرئيس اعتراف أولى بالأزمة ومسئوليته تقتضى أن يسأل عن أسبابها لتصويب المسار لا التلويح بـ«المشى خارج السلطة».