إذا صح موضع التنسيق بين المجلس العسكرى وعدد من القوى السياسية لاختيار مرشح رئاسى والدفع به لفرضه على القوى السياسية بالشكل الذى تناقلته وكالات الأنباء فإننا سنكون أمام خطأ تاريخى آخر ينضم إلى سلسلة الأخطاء التى ارتكبت خلال العام الماضى. هذا أمر لا تحتاجه مصر بعد الثورة، وأدى إلى مشكلات كثيرة فى دول أخرى. وعلى القوى السياسية الوطنية التحرك لمواجهته بأكبر قدر من التوافق والتنسيق.
عدة أسباب لعدم حاجة مصر لمثل هذا التنسيق، أولها هو أن من أهم معايير الانتخابات الديمقراطية المتعارف عليها مبدأ «الشعب مصدر السلطة»، والذى يعنى عمليا أن الشعب هو الذى يختار حكامه من خلال آلية الانتخابات الديمقراطية التى يُترك فيها للناخبين حريات الترشح والمفاضلة والاختيار، ويفوز فيها من استطاع فعلا أن يقدم لهم البرامج التى تعتقد أغلبية الناخبين أنها الأصلح. والانتخابات الديمقراطية آلية لا يعرف الناس نتائجها مسبقا، ويجب ألا تقوم السلطة القائمة بأى عمل سياسى يفهم منه الانحياز لطرف دون آخر أو التأثير المسبق فى نتائجها. أدبيات السياسة تقول لنا إن هذه الممارسات لا يقوم بها إلا الحكام الشموليون غير الديمقراطيين، وما قامت ثورتنا إلا للقضاء على هذه الممارسات.
من ناحية ثانية، تتطلب حالات الانتقال الديمقراطى الناجحة ارتقاء من يقود المرحلة الانتقالية إلى مستوى المرحلة التاريخية واحترامه إرداة الناخبين، وإتاحة الفرصة لهم لممارسة الديمقراطية بشكل صحيح. وفى حالتنا على السلطة الحاكمة (المجلس العسكرى والحكومة والبرلمان والقوى الممثلة فيه) توفير جميع الحقوق والآليات والمؤسسات والضمانات التى تضمن للشعب ممارسة انتخابية حقيقية. ولا يمكن تقديم الحجج لمثل هذا التنسيق بأن كل الانتخابات تشهد مثل هذا النوع من التنسيق. بمعنى أنه علينا، ونحن نمارس الديمقراطية لأول مرة لاختيار الرئيس، أن نجاهد أنفسنا لتجنب الممارسات غير الصحيحة التى تشهدها بعض الدول الديمقراطية وشبه الديمقراطية، كنفوذ المال السياسى والعصبية السياسية وتدخل المؤسسات الأمنية والعسكرية وعقد الصفقات السرية. الشعب يريد بداية صحيحة ويريد من قواه الوطنية أن تُعوده على الممارسة الديمقراطية الصحيحة وأن تضع له الأسس الصحيحة لهذه الممارسة. هذه أمانة ومسئولية تاريخية سيُسأل عليها كل صاحب مسئولية.
ولمواجهة هذا التنسيق، تحتاج مصر إلى قيام القوى الوطنية والشخصيات الوطنية بسلسلة من التفاهمات والتوافقات الوطنية المضادة. فى الساحة الآن عدد من الشخصيات الوطنية المشهود لها بالنزاهة والكفاءة والتى تعبر عن تيارات سياسية وطنية ولها فرص جادة فى الفوز بجانب دكتور محمد البرادعى الذى يمكن له العودة إلى السباق. أعتقد أن على هؤلاء، وغيرهم من الشخصيات الوطنية والقوى الوطنية الأخرى وخاصة الأحزاب الرئيسية بالبرلمان، التنسيق فيما بينهم والتوافق على رئيس ونائبين للرئيس من بينهم، أو من خارجهم، والنزول إلى الانتخابات بملف وطنى واحد. هذه الانتخابات ستشهد تنافسا لشخصيات أخرى لها بعض النفوذ فى بعض الدوائر، ومن ثم لا يمكن تصور أن هناك فرصًا كبيرة لنجاح شخصية وطنية إذا استمرت القوى السياسية والشخصيات الوطنية فى التنافس فيما بينها.
●●●
وأخيرا لا خوف، فى اعتقادى، من موضوع التنسيق بين الجيش وبعض القوى السياسية، فهناك ضمانة شعبية هى من أهم إنجازات ثورة 25 يناير، ضمانة جُربت كثيرا خلال العام الماضى ونجحت. فقد أثبت الشعب أنه أكثر وعيا من طرق تفكير النخب وممارساتها. ويكفى هنا التذكير بأن الشعب هو الذى أقصى أحزاب الفلول وحصر تمثيلهم فى البرلمان فى أضيق الحدود، وهو الذى تحرك فى الشوارع بمئات الآلاف لدفع السلطة والحكومة إلى معظم الانجازات التى تحققت، ويقينى أن الشعب سيُسقط أى مرشح جاء بصفقة مريبة. كما لا أتصور أن شباب وأنصار الأحزاب الإسلامية سيلتزمون بتعليمات قادة هذه الأحزاب فى حالة وجود مثل هذا التنسيق.
وأخيرا أقول إن الأخطاء التى قد تُرتكب فى هذا الموضوع سيترتب عليها آثار سلبية كثيرة قد تُدخل البلاد فى سلسلة جديدة من الاحتجاجات والاضرابات (كما حدث فى دول أخرى)، تماما كما أدت أخطاء السنة الماضية فى كل الاخفاقات التى نمر بها، فاعتبروا يا أولى الألباب.