مفيد بل وضرورى للمنشغلين بالكتابة فى الشئون الدولية القيام بين الحين والآخر بتغيير مناحى تركيزهم. لعلنى لا أبالغ أو أتجاوز حين أعبر عن قلقى من انغماسنا فى الكتابة عن الشرق الأوسط، عن أزماته ومشكلاته، عن تقلباته وعنفه، عن مؤامراته وحكاياته، عن ثوراته المحبطة غالبا ولكن المشتعلة دائما تحت الرماد.
أغلبنا يعرف جيدا قوة الجاذبية التى يحوز عليها الشرق الأوسط، ويعرف عمق تأثيرها فى عديد السياسيين والمحللين والمتآمرين منذ القرن الثامن عشر وإلى يومنا هذا. الشرق الأوسط، خلافا لمختلف أقاليم العالم، حافظ بكل الإتقان الممكن على موهبة الاستمرار كبؤرة اهتمام ومركز إشعاع وتصادم وساحة تنافس وصراع، حافظ عليها نقية ومتجددة على امتداد العقود والقرون، ولايزال يجدد فيها ويبتكر ويبدع.
لذلك، أتصور أنه من المفيد والضرورى أن ننتزع أنفسنا أحيانا من أحضان هذا الإقليم لنبحث فى أقاليم أخرى عن زاد يزيدنا خبرة ومعرفة بتطورات العلاقات بين الدول وقضايا الأمن والسلام. أفعل هذا بين الحين والآخر. وفعلته أخيرا عندما قضيت وقتا مناسبا أتابع تطور العلاقات المثلثة الأطراف وهى الصين والهند وباكستان. هذه الدول التى تشكل شكلا هندسيا لا يقبل التوصيف، ولكنه يؤذن بأنه قد يصبح فى يوم قريب البقعة الأخطر والأعظم أهمية فى الساحة الدولية.
لفت نظرى فى بداية التركيز على هذه الثلاثية المركبة عبارات بلاغية تبادلتها تصريحات وخطب كبار المسئولين فى الدول الثلاث أثناء إشادتهم بالعلاقات القائمة بينها. توقفت وأنا القادم من إقليم اشتهر رجال السياسة فيه بالقدرة على صك أحلى الكلمات وأقبحها فى وصف علاقاتهم الإقليمية. سمعت أهل الشرق البعيد يستخدمون فى وصف علاقاتهم ببعضهم البعض عبارات من قبيل «أعمق من المحيطات»، و«أعلى من الجبال»، و«أحلى من العسل».
استخدام مثل هذه الصياغات يعنى أننا أمام ثقافة سياسية مختلفة عن الثقافة السياسية السائدة فى دول الغرب. يعنى أيضا أهمية توخى الحذر كل الحذر فى تحليل الخطابات السياسية لرجال الدولة فى هذه الدول، وأهمية، بل ضرورة، فهم التراث السياسى والفكرى لهذه الأمم وفلسفاتها الغائرة فى عمق التاريخ.
***
تابعت زيارة الرئيس أوباما فى الهند، وهى الزيارة التى أحيطت بكل مظاهر الصخب الموروث عن تقاليد ممثلى التاج البريطانى وسلاطين المغول وعن أبهة المهراجات والطبقة الارستقراطية الهندية. لم يكن خافيا أن الرئيس الهندى الجديد، ناريندرا مودى، يسعى بكل ما أوتى من جاذبية شخصية وشعبية وأغلبية برلمانية، إلى وضع ملامح لسياسة خارجية جديدة للهند، قوامها تقليص مسافة البعد التاريخى عن واشنطن، ومستجيبة لنداءات أمريكية طويلة الأمد بإقامة علاقات مختلفة النوع والأهداف بين أمريكا والهند. أطلق أوباما على هذه العلاقات التى يسعى لإقامتها مفهوم الشراكة الاستراتيجية، ويقصد بها، علاقة على مستوى أدنى قليلا من التحالف الوثيق وأعلى كثيرا من الصداقة ومن علاقات المصالح التجارية العادية. يعرف أوباما، ومن قبله عرفت المؤسسة السياسية الأمريكية، أن القائمين على حكم الهند ورثوا تراثا من الشكوك تجاه الولايات المتحدة ومن عدم الاطمئنان لنواياها، وأنهم لن يقبلوا، على الأقل خلال السنوات القليلة القادمة، القفز بعلاقاتهم مع أمريكا إلى مستوى التحالف، وإن كانوا على استعداد لتغيرات عديدة فى برامج التسلح والتدريب بخاصة فى مجال التعاون النووى.
***
أثار الفضول أنه فى وقت زيارة الرئيس أوباما للهند أثناء الاحتفال بعيد استقلالها، كان القائد العام للقوات المسلحة الباكستانية يزور الصين. لم يشذ أحد من المعلقين عن الاعتقاد السائد بأنها كانت بهدف تهدئة خواطر الحكومة الصينية، بخاصة بعد الزيادة الملحوظة فى أعمال التخريب والتمرد فى مقاطعة سنكيانج الصينية، وهى المقاطعة التى تسكنها أغلبية متناقصة من شعب الإيجور المسلم، وكذلك بعد الهجوم الإرهابى على مدرسة فى مدينة بشاور الباكستانية وسقوط عشرات الأطفال ضحايا، الأمر الذى أعاد التأكيد للسياسيين الصينيين المدى الذى تذهب إليه خطورة الأوضاع الأمنية فى باكستان، ليس فقط على الأمن والسلم فى باكستان ولكن أيضا على الأمن والسلم فى الإقليم.
***
باكستان تعنى الكثير بالنسبة للصين منذ أيام الرئيس ماو. ولاشك أن هذا الاهتمام الصينى بباكستان كان دائما مثار نقاشات مطولة بين المتخصصين فى شئون آسيا. خلاصة الأمر، من وجهة نظرى، يمكن إبرازها فى ثلاث نقاط أساسية. أولاها أن أمن باكستان حيوى بالنسبة لأمن مناطق غرب الصين وبخاصة مقاطعة سنكيانج، ولذلك تقرر فى خطط الصين الاستراتيجية أن يقام طريق عابر للحدود يوصل بين ميناء جوادار على بحر العرب فى جنوب باكستان وبين مقاطعة سنكيانج عبر ممر "كاراكوروم". يكون هذا الطريق عند الانتهاء من شقه بمثابة المرحلة الأولى من مراحل مد طريق جديد من طرق الحرير، ينطلق من نقاط مختلفة فى غرب الصين متجها نحو شرق أفريقيا والشرق الأوسط وجنوب أوروبا.
***
ثانى نقاط الخلاصة تتجسد فى الطبيعة الاستثنائية لباكستان كدولة. كان هناك دائما من يقول إن باكستان بالنسبة للصين أكثر من دولة جارة. هى كنز. هذه الدولة شاء قدرها أن تنشأ وتستمر وستبقى، حتى لو انفرطت مرة ثانية، عدوا لدودا للهند، العملاق الناهض المتحفز لينافس الصين ويضبط حركتها فى الإقليم ويكون قيدا على حريتها.
باكستان بهذا الوضع الممتد زمنيا فى التاريخ والمستقبل كفيلة بأن تبدد طاقة استراتيجية هندية وتحد كثيرا من قدرة الهند على إيذاء الصين.
***
ثالث نقاط الخلاصة التى تسعى لفهم أسباب الاهتمام الصينى الشديد بباكستان، هى هذا الزخم النادر من جماعات وعناصر متشددة عديدة، بعضها إرهابى بامتياز مقيم على أرض باكستان. هذا الزخم عرفت النخبة الباكستانية كيف تستثمره لخدمة مصالحها الاستراتيجية. استثمرته فى علاقاتها بالولايات المتحدة منذ النشأة الأولى لباكستان وبخاصة خلال الحرب الباردة عندما وظفته لصالح المملكة السعودية والولايات المتحدة فى سعيهما لطرد السوفييت من أفغانستان. واستثمرته فى جميع مراحل تدهور علاقاتها بالهند، سواء بالنسبة للوضع فى كشمير أو لمجمل علاقاتها مع نيودلهى.
ليس خافيا على الهنود أو أهل الغرب أو على حكومات آسيا أو علينا هذه "العلاقة الاستثنائية" والوثيقة القائمة بين بعض هذه الجماعات التى تتولى مهام التخريب فى الهند وبين أجهزة فى الاستخبارات الباكستانية وقيادات فى الجيش الباكستانى.
استثمرته أيضا لتحتفظ لنفسها بدور أساسى فى أفغانستان فى الحال وفى المستقبل. الطالبان، كما نعرف، صناعة باكستانية، أو فى الأساس عربية باكستانية، واستمرارهم كقوة أساسية فى أفغانستان يضمن لباكستان عمقا استراتيجيا فى دولة تميل قياداتها السياسية تقليديا نحو الهند.
يصعب، والأوضاع على هذا النحو، تصور أن تتجاهل حكومة بكين أهمية وخطورة الطرف الباكستانى فى المثلث الاستراتيجى الممتد من الباسيفيكى شرقا إلى المحيط الهندى جنوبا مارا بأطراف آسيا الوسطى. لن تتجاهله لأنه مصدر تهديد لأمنها ولن تتجاهله لأنه رصيد متوفر وجاهز لاستخدامه إن دعا الأمر، خاصة أن احتمالات استمراره قوية لاعتبارات عديدة، منها هيمنة العسكريين الدائمة على الحكم فى باكستان وعلاقاتهم الوثيقة جدا بالجماعات المتشددة فى وسط وجنوب آسيا.
***
الهند، من ناحيتها، تدرك جيدا أهمية باكستان لاستراتيجية الصين والولايات المتحدة، وتدرك فى الوقت نفسه، خطورة الطبيعة النووية للدول الثلاث التى يتشكل منها هذا الفريق، وتعرف أيضا أن توازن القوى الدقيق القائم فى هذه المنطقة الحيوية من آسيا، يعتمد أساسا على التزام كل من الصين والهند بعدم الدخول فى أحلاف عسكرية مع دول عظمى من خارج آسيا، أو إقامة أحلاف عسكرية من داخل آسيا، ولا شك أن الصين من ناحية وأمريكا من ناحية ثانية والهند من ناحية ثالثة تستطيع إن احتاج الأمر، تقييد حرية قوى الحكم الباكستانية فى الإخلال بتوازن القوى الدقيق فى المنطقة.
***
واضح جدا، لى على الأقل، أن المحافظة على التوازن الدقيق للقوة فى المنطقة يعتمد على شروط ثلاثة يجب أن تتوافر دائما بدرجة أو بأخرى. يجب أولا أن يستمر حرص كل من العملاقين، منهما من حقق النهوض ومنهما من هو فى الطريق، ومعهما أطراف دولية عظمى، على مواصلة تقييد حرية قوى نافذة باكستانية فى إثارة مشكلات خطيرة على الحدود أو فى الداخل.
يجب ثانيا أن تسرع الهند خطاها نحو النهوض قبل أن تنفرد الصين بالقوة الفائقة فيختل ميزان القوى إلى درجة يستعصى عندها إصلاح الاختلال أو تصحيحه. يجب، ثالثا، أن يلتزم الطرفان الأعظم فى المثلث، الهند والصين، بعدم الدخول فى أحلاف عسكرية مع قوى عظمى من خارج المنطقة.
***
البعد الغائب فى معظم الرؤى حول مستقبل العلاقات بين دول هذا المثلث هو المتعلق بمستقبل أفغانستان. أمريكا قد لا تتخلى تماما عن افغانستان وستبقى عنصرا فاعلا. تخلت أمريكا أو بقيت يجب أن نتوقع سباقا بين الأطراف الثلاثة :الصين والهند وباكستان، على نصيب من النفوذ فى أفغانستان، ولكن أيضا على أنصبة فى الأسواق الأفغانية، وبخاصة سوق الأفيون وسوق المواد الخام وسوق الاستهلاك وسوق السلاح، وأهمها جميعا، سوق الإرهاب.
***
تبقى حقيقة ناصعة وهى أن الدول الثلاث تمكنت بنجاح كبير من تحقيق أمن وسلم إقليميين بفضل حسن إدارتهما لحال توازن قوى إقليمى فى منطقة شديدة الحساسية. جدير بالذكر أن حربا واسعة لم تنشب بين الهند والصين منذ عام 1962، رغم نزاعاتهما الحدودية وخلافاتهما العديدة. وأن حربا شاملة لم تنشب بين الهند وباكستان العدوين اللدودين منذ حرب " تحرير بنجلاديش " فى عام 1971.
اقتباس
تبقى حقيقة ناصعة وهى أن الدول الثلاث تمكنت بنجاح كبير من تحقيق أمن وسلم إقليميين بفضل حسن إدارتهما لحال توازن قوى إقليمى فى منطقة شديدة الحساسية.