أخيرا انكشفت الغمة، ووجدنا إجابة للسؤال الحائر: لماذا يقبع العاملون فى الدولة فى أدنى السلم الاجتماعى، ولماذا لا تستطيع الحكومة تنفيذ الحكم القضائى بزيادة الحد الأدنى لرواتبهم إلى 1200 جنيه، على الرغم من حرصها الشديد على محدودى الدخل، وحرصها الأشد على تنفيذ الأحكام القضائية؟
فقد اتضح، لا أراك الله مكروها، أن غرام المصريين بالميرى وترابه هو السبب فى سوء أحوال الموظفين، وأن الزيادة المطردة فى أعدادهم هى التى تحول دون تحسين دخولهم، وأن كل قادم جديد إلى دولاب العمل الحكومى يحرم زميله الأقدم من فرص زيادة دخله، وأن الحل الوحيد لهذه المأساة هو التخلص من هذه العادة السيئة التى جبل الناس عليها، وهى عشقهم للميرى، وتقليص عدد العاملين فى الدولة إلى النصف، أى من ستة ملايين تقريبا إلى ثلاثة ملايين فقط.
«التخريجة» السابقة قرأتها فى مقال للمفكر الليبرالى المحترم جمال عبدالجواد بجريدةالأهرام المسائى يوم الخميس الماضى، وقد مهد لها بالتأكيد على أنه لا يوجد موظف فى مصر يعيش على أجره الأساسى، وأن ما يتحصل عليه بعد الحوافز والمكافآت يصل إلى ستمائة جنيه تقريبا،أى خمسين بالمائة من الأجر المطلوب.
وبرأيى فإن بعض ما ورد بالمقال يستحق المناقشة، وأبدأ بعشق المصريين للوظيفة الحكومية، وهو استنتاج غير صحيح، فثمة إدراك الآن أكثر من أى وقت مضى، أن عائدها لا يفى حتى بحد الكفاف، وأن اللجوء إليها سببه عدم قدرة القطاع الخاص على استيعاب الأعداد الكثيفة من العاطلين، فضلا عن الاشتراطات التى يتطلبها العمل فى القطاع الخاص، والتى لا تتوفر فى النسبة الأكبر من الخريجين بسبب تخلف نظامنا التعليمى، وفى الحالتين فإن الدولة هى المسئولة وليس الأفراد، فضلا عن مسئوليتها عن تضخم الجهاز الإدارى، ويعلم الدكتور جمال قبل غيره، أن الخيارات السياسية والاجتماعية لعبت دورا فى هذه المسألة، التى لم تؤد فقط إلى زيادة الموظفين عن الحاجة، وإنما إلى شيوع الاتكالية واللامبالاة وافتقاد القدرة على الإبداع والمبادرة، وقد أضيف إلى هذه العيوب، تفشى الفساد والرشوة بين صغار الموظفين وكبارهم، وهو ما يجيب عن السؤال الحائر: كيف يواجه الموظفون بقروشهم الزهيدة غلاء المعيشة؟
رفع الحد الأدنى للأجور مطلب عادل أكده حكم قضائى، وعدم الاستجابة له يفسح المجال لمزيد من الفساد والرشوة التى تعوق حتما أى محاولة للتنمية.