تحل علينا نسائم شهر يونيو التى تحمل معها ذكريات راسخة فى القلب والروح، ذكريات معركة من أشرس وأقوى المعارك التى خاضتها مصر فى العصر الحديث. كان يونيو ليس ككل يونيو منذ خمسة وخمسين عاما؛ سالت فيه دماء، وتحطمت فيه آمال، ونقشت ذكراه فى الوجدان بحروف من نار. ولكن بقدر ما جمعنا يونيو بذكرياته، بقدر ما قسّمنا بين من يراه امتحانا صعبا لإرادتنا، واجهناه بشرف وصلابة ورأيناه انتكاسة مؤقتة وكبوة قمنا منها وقد ازددنا تصميما وإصرارا وتحديا، وبين من يراه فرصة للطم الخدود وشق الجيوب والشماتة وإظهار الحقد الدفين لثورة يوليو وجمال عبدالناصر، بلغت أوجها وذروتها بتصريح شيخ جليل سامحه الله بأنه سجد لله شكرا على هزيمة الجيش المصرى. هذا الفريق يرفض مسمى النكسة ويصر أنها كانت هزيمة، ناسين أن الهزيمة هى فقدان الإرادة والتسليم، وأن من تصدى للعدوان فى رأس العش بعد أيام من العدوان ومن أغرق المدمرة إيلات بعد أسابيع لم يكن فاقد الإرادة أو مستسلما. وأن من أطلق صيحة اللاءات الثلاثة ــ لا صلح، لا اعتراف، لا تفاوض ــ وصيحة «أن ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة» لم يكن مهزوما.
ومن المثير للدهشة أن من لا يقدّرون الصمود والإرادة والتحدى هم من يحنّون إلى ملك فر مذعورا أمام السفير البريطانى عندما اقتحم قصره، وأرغمه صاغرا مستسلما على التوقيع على مرسوم بتعيين رئيس للوزراء يرضى عنه، ويستقبلون ابنه الذى غادر مصر رضيعا ويدعونه حضرة صاحب الجلالة.
• • •
فى ذكرى يوم خمسة يونيه مطلوب وقفة إكبار وإجلال للشهداء الذين روت دماؤهم أرض سيناء، وللرجال الأشداء وصمودهم رغم صعوبة التحدى. مطلوب وقفة تتصدى للشامتين والمشككين الذين كشفوا وجوههم القبيحة منذ خمسة وخمسين سنة بحملة ممنهجة من السخرية البذيئة التى تصوروا أنها تنال من جيشنا وجنودنا وقيادتنا، ولكن هيهات، فقد ظلت الجبهة الداخلية صامدة موحدة وظل جيشنا مصدر فخر وإكبار للجميع.
لم نكن الدولة الوحيدة التى تعرضت لانتكاسة، ولم تكن نكستنا الأكبر. ففى الحرب العالمية الأولى اخترقت الجيوش الألمانية دفاعات فرنسا إلى أميال قليلة من باريس، لكن القيادة السياسية ممثلة فى رئيس الوزراء جورج كليمنصو الملقب عن جدارة بالنمر وفى القيادة العسكرية للمارشال فوش لم تهتز وثبتت حتى حققت النصر. وتكرر الاختراق فى الحرب العالمية الثانية مع قيادة مختلفة وتملك الذعر من المارشال بيثان واستسلم للألمان، أما من صمد فكان الجنرال ديجول ورفض الهزيمة وانتقل إلى بريطانيا حيث واصل المقاومة وقاد قوات فرنسا الحرة حتى النصر.
فى عام 2017 أنتجت هوليوود فيلم Dunkirk عن المعركة التى هُزمت فيها القوات البريطانية أمام الجيش الألمانى الذى غزا فرنسا، وهربت القوات من خلال القناة الإنجليزية. وأنتجت هوليوود ثلاثة أفلام عن هزيمتها المهينة فى بيرل هاربور، وأنتجت فيلما بطولة نجمها الأشهر فى هذا الوقت روبرت تايلور عن هزيمة القوات الأمريكية فى معركة كوريجادور التى فتحت الباب أمام القوات اليابانية لاحتلال الفلبين والملايو.
لماذا تخلد أمريكا وبريطانيا ذكرى هزائمهما بأفلام توزعها على العالم؟ أنها تقول للعالم وتسجل للتاريخ أننا انتكسنا فى يوم ما وكبونا، لكننا قمنا من كبوتنا أقوى مما كنا. صمدنا واستمرينا نحارب حتى تحقق لنا النصر ولم نهزم أبدا، لم يجعلوا من انتكاستهم عورة يخجلون منها بل علامات على الطريق يأخذون منها العبر لإصلاح المسار. من عمره اليوم ستون سنة كان طفلا يوم النكسة لا يعى أبعادها، وتأثر بحملة التشويه التى تعرض لها جمال عبدالناصر وثورة يوليو والجيش المصرى على يد من يحنون إلى حكم أفندينا، الذين فرشوا السجاجيد الحمراء لسليل أفندينا ودعوة حضرة صاحب الجلالة. هؤلاء الذين لا يسامحون جمال عبدالناصر على إرسال الجيش المصرى إلى اليمن لتحريرها من غياهب العصور الوسطى، ويهللون للخديوى إسماعيل الذى أرسل الجيش المصرى إلى المكسيك لإخضاع ثوارها لفرنسا ونابليون الثالث.
يحمّلون جمال عبدالناصر مسئولية النكسة، وهو حتما مسئول ولم ينكر ذلك وتنحى لهذا السبب وتمسك به شعبه. ويدللون على مسئوليته لأنه تسمك بعبدالحكيم عامر قائدا للجيش رغم أن خبرته لا تؤهله، وكان أداؤه دون المستوى فى حرب العدوان الثلاثى واليمن، فضلا عن فشله فى سوريا الذى أجهض الوحدة. إلا أن المطَّلع على التاريخ عليه أن يدرك أن عبدالحكيم عامر لم يكن مجرد وزير حربية عينه الرئيس ويقيله، مثلما أقال الرئيس السادات المشير الجمسى، وأقال الرئيس مبارك المشير أبوغزالة رغم إنجازهما الراقى المشرف، لكن عبدالحكيم عامر كان رفيقا فى الثورة علاقته بعبدالناصر كانت علاقة ندية وأتاحت له الظروف السيطرة على القوات المسلحة. وعلى المتابع المنصف للتاريخ أن يدرك وأن يعى أنه إذا كان عبدالحكيم عامر قد خذل عبدالناصر وخذل الجيش، بل وخذل مصر والعرب، إلا أن الجيش المصرى ظل مؤسسة ولادة أنجبت كوكبة من أعظم القادة الذين تولوا إعادة بناء الجيش حتى يتمكن من اجتياز أكبر الحواجز، قناة السويس وخط بارليف، وحققوا النصر لمصر. هؤلاء القادة الذين كتبوا أسماءهم بحروف من نور فى سجل الشرف؛ محمد فوزى، وعبدالمنعم رياض، وعبدالغنى الجمسى، وسعد الشاذلى، وأحمد إسماعيل على، ومحمد على فهمى، وغيرهم.
• • •
ينسى أو يتناسى عمدا المشككون العداء الهائل الذى حملته الولايات المتحدة لثورة مصر التى هاجمت الإمبريالية والاستعمار الجديد وعارضت حرب فيتنام وحملة خليج الخنازير وسعت إلى توحيد العالم العربى والعالم الثالث فى حركة عدم الانحياز، فصممت الولايات المتحدة على إجهاضها وإضعافها، فزودت إسرائيل بأجهزة الحرب الإلكترونية لتمكنها من الشوشرة على الاتصالات والرادارات وكانت المرة الأولى التى تدخل هذه الإمكانات الترسانة الإسرائيلية، وكانت هذه المعدات بمثابة تغيير لقواعد اللعبة Game Changer وعامل رئيس من عوامل النكسة، ومن ينكر ذلك عليه الرجوع إلى حادث السفينة ليبرتى التى قصفتها إسرائيل بالخطأ وهى تمارس أعمال الحرب الإلكترونية أمام سواحل سيناء. ولما حققت إسرائيل تفوقا عسكريا عقب عام 1967 لم تكتف الولايات المتحدة بذلك بل عملت على زيادة الفجوة، فزودت إسرائيل بطائرات الفانتوم التى كانت أحدث وأقوى الطائرات فى الترسانة الأمريكية وتتفوق كثيرا ــ بالورق ــ على طائرات الميج 21، لكن الانتصار فى ساحة الحرب لا يحسب التفوق على الورق ولكن يحسمه عزائم الرجال الشداد فواجه الطيارون المصريون العظماء طائرات الفانتوم وأسقطوها وانتصروا عليها.
إن من لا يزال يشكك فى الدعم اللامحدود الذى قدمته الولايات المتحدة لإسرائيل عليه أن يرجع إلى ملفات العملية Nickel Grass؛ التى رفعت عنها الولايات المتحدة السرية، والتى توضح حجم الجسر الجوى الأمريكى لتعويض خسائر إسرائيل فى حرب 1973، وتكشف أننا فى كلا الحربين، 67 و73، كنا نحارب أمريكا من خلف إسرائيل.
• • •
تحية إلى القادة العظام الذين صمدوا حتى حققوا النصر، تحية إلى الشهداء العظام عبدالمنعم رياض وإبراهيم الرفاعى وأحمد حمدى، تحية إلى عبدالعاطى صائد الدبابات وإلى أصغر جندى حارب من أجل سيناء ومن أجل مصر.
تحية إلى المهندسين الذين بنوا حائط الصواريخ والأطباء الذين ضمدوا جراح المصابين. تحية إلى الدبلوماسيين الذين حاربوا فى ساحات المحافل الدولية، تحية إلى الإعلاميين الذين حاربوا على ساحات الأثير، وتحية إلى الفنانين الذين جاهدوا لحفظ الروح المعنوية للشعب؛ عبدالحليم حافظ والأبنودى بالرائعة عدى النهار، محمود مرسى ومحمود ياسين وصلاح قابيل وصلاح السعدنى فى فيلم أغنية على الممر، ومحمد نوح وهو يغنى «مدد مدد شدى حيلك يا بلد». فجر يوم 5 يونيو دعونا نستمع إلى دعاء الكروان وشدو البلبل ونصم آذاننا عن نعيق البوم ونعيب الغربان.