وفقا لمحيى الدين بن عربى.. الذى يطلق عليه الصوفيون الشيخ الأكبر.. فإن الأديان جميعا تلتقى فى محتوى العقيدة، وهى الإيمان بالله واليوم الآخر، أى الثواب والعقاب، ولكنها تتمايز من حيث الشرائع والأحكام. ومن هنا نلمس حرص القرآن الكريم على إبراز هذين الجانبين: وحدة العقيدة فى الأديان من جهة واختلاف الشرائع من جهة أخرى (كتاب: هكذا تكلم ابن عربى للدكتور نصر حامد أبو زيد)..
وعن وحدة الدين يمكن الاستشهاد بالنصوص القرآنية التالية:
1 ــ «شَرَعَ لَكُم مِنَ الدِينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ (أى يا محمد) وَمَا وَصَيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِينَ وَلاَ تَتَفَرَقُوا فِيهِ». (سورة الشورى، الآية: 13)
2 ــ «إِنَّ الَذِينَ آمَنُوا وَالَذِينَ هَادُوا وَالنَصَارَى وَالصَابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ». ( سورة البقرة، الآية: 62 )
وهذا المعيار، أى الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح، يتسع ليستوعب كل الأديان السماوية أو الإبراهيمية، وهذا الدين العام الشامل هو الإسلام بالمعنى اللغوى.
لذلك فعندما يقول الله تعالى: «إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَهِ الإِسْلامُ» أو «وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ» فإن المقصود هو هذا الدين العام الشامل الذى نزل على كل الأنبياء، ولذلك يجب ألا نستغرب أن كل الأنبياء بلا استثناء يوصفون فى القرآن بأنهم مسلمون.
ويضيف ابن عربى: «ولكى يزيل الإسلام أى احتمال للتعصب فإنه يؤكد أن الفصل بين أصحاب العقائد ــ بمن فيهم المجوس(عبدة النار)، والمشركون (عبدة الأوثان) ــ يجب أن يترك لله سبحانه، حيث يكون الحكم له وحده يوم القيامة «إِنَ الَذِينَ آمَنُوا وَالَذِينَ هَادُوا وَالصَابِئِينَ وَالنَصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَ اللَهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَ اللَهَ عَلَى كُلِ شَىْءٍ شَهِيدٌ». (سورة الحج، الآية: 17)
وفى مقابل وحدة الدين تختلف الشرائع، فلكل جماعة دينية جعل الله (شرعة ومنهاجا).. «لِكُلٍ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَة وَمِنْهَاجا وَلَوْ شَاءَ اللَهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَة وَاحِدَة». (الآية 48 من سورة المائدة)
وكذلك المناسك التى هى جزء من الشريعة، تختلف باختلاف الشرائع «لِكُلِ أُمَةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكا هُمْ نَاسِكُوهُ». (سورة الحج، الآية: 67).
وقد اقتضت الحكمة الإلهية ألا يكون الناس أمة واحدة وهكذا، فالتعددية فى المنهج والمنسك هى الطريق الذى أراده الله للخلق لأسباب يعلمها الله الذى خلق البشر مختلفين فى الأعراق والألوان واللغات.. وهذا التنوع يؤدى إلى إذكاء الحيوية وإثراء روح التنافس الحميد..
وهناك آيات عظيمة فى القرآن فى هذا الصدد لا ينتبه إليها كثير من الناس فى زحمة ضجيج الإرهاب والتطرف الداعشى وهى الآيات التى تدعو إلى التعامل بالبر والمودة ليس فقط مع أهل الكتاب بل مع الكفار..
فبالنسبة لأهل الكتاب: «وَإِلَهُنَا َوَإِلَهُكُم وَاحِدٌ» و: «وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إِلاَ بِالَتِى هِيَ أَحْسَنُ» و: «وَإِنَّ هَذِهِ أُمَتُكُمْ أُمَةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُكُمْ فَاتَقُونِ».. وقد أمر الله أهل الإنجيل بأن يحكموا بما أنزل الله فيه (الآية 47 من سورة المائدة) واستنكر على اليهود أن يحكموا رسول الله وعندهم التوراة تتلى عليهم (الآية 43 من سورة المائدة).
وبالنسبة للتعامل مع الكفار فدعونا نتأمل هاتين الآيتين: «لاَ يَنْهَاكُمُ اللَهُ عَنِ الَذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُوَهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ» (سورة الممتحنة، الآية: 8) أن تبروهم وتقسطوا إليهم.. أى ليس فقط معاملتهم بالحسنى بل بأعلى درجات التعامل الحسن وهو البر الذى يجمع كل الفضائل كما جاء وصفه فى القرآن الكريم.
وهناك آية ثانية تقول: «وَإِذَا رَأَيْتَ (يا محمد) الَذِينَ يَخُوضُونَ فِى آيَاتِنَا (أى يستهزئون بالدين ويسخرون منه) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَى يَخُوضُوا فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ» (الآية 68 من سورة الأنعام).. أى إذا جلست يا محمد مع جماعة تتحادثون وتتسامرون ثم بدأوا يخوضون فى الدين ويستهزئون به فما عليك إلا أن تغادر المجلس «حَتَى يَخُوضُوا فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ».
***
فإذا كان الإسلام بهذه السماحة.. فما هى المشكلة إذن.. فى تقديرى أن البلاء الأكبر الذى ابتلينا به هو «آفة النسخ» أى الإلغاء.. فجميع الدواعش وكل الحركات والمذاهب التكفيرية والإرهابية تعتبر أن كل آيات الرحمة والتسامح قد نسخت بما يسمونه آية السيف وهى الآية رقم 39 من سورة الحج التى أذن الله فيها للمسلمين بالقتال.. مع أنها آية صريحة للغاية فى أنها تصريح بالقتال للدفاع عن النفس حيث تقول: « أُذِنَ لِلَذِينَ يُقَاتَلُونَ (يتعرضون للعدوان) بِأَنَهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَ اللَهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ، الَذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍ إِلاَ أَن يَقُولُوا رَبُنَا اللَهُ». (الآية 39، 40 من سورة الحج )
ولا شك أن هؤلاء الضالين المضلين يستمدون أفكارهم وتفسيراتهم من الكثير من الكتب التراثية وما أكثر ما كتب عن الناسخ والمنسوخ من أباطيل، ولذا فلا سبيل إلا بتنقية التراث وليس مجرد تجديد الخطاب الدينى..
وقد جاء فى وثيقة الاستراتيجية الثقافية للعالم الإسلامى التى أقرها مؤتمر القمة الإسلامى السادس فى داكار عام 1991، أن التراث الإسلامى وإن ارتبط بالوحى فهو ليس بوحى بل هو عمل إنسانى من صنع البشر وفهم بشرى للوحى ويجب مراجعته مراجعة نقدية وعدم إضفاء القداسة عليه فلا شىء مقدسا سوى وحى السماء وأن الأمم التى لا تراجع تراثها مراجعة نقدية لن يكتب لها التقدم.
ووفقا لهذه الوثيقة فيندرج تحت التراث الأحاديث النبوية والتاريخ الإسلامى والعلوم الدينية من فقه وشريعة وتفسير... إلخ.
فهذا هو الطريق وهذا هو الإجماع، فقد أعد هذه الوثيقة مجموعة كبيرة من خيرة العقول فى العالم الإسلامى وأساتذة فى مختلف علوم الدين بالجامعات والمعاهد المتخصصة سواء فى العالم الإسلامى أو فى الجامعات العالمية التى تضم أقساما للدراسات الإسلامية.
وقد صدرت الوثيقة بالإجماع من مؤتمر القمة الإسلامية التى وافقت عليها دول تمثل مختلف المذاهب والاتجاهات فى العالم الإسلامى بسنته وشيعته، ومع ذلك تركت للعناية المتحفية حيث يتم فى كل عام تأكيد ما جاء بها ثم تعود إلى أدراجها لتواصل الرقاد.
***
إن العالم الإسلامى يواجه الآن مفترق طرق مصيريا، وقد أشارت منظمة التعاون الإسلامى إلى ذلك فى وثيقتها فقالت: «إننا نلمس حيرة وارتباكا أمام تحديات وتدفق الحضارة الغربية،وهو ما جعل المثقف المسلم يشعر باضطراب الرؤية والحاجة إلى مراجعة إرثه الثقافى وإعادة توظيفه لخدمة قضايا المرحلة لأنه من الواضح أننا دخلنا عصر التحولات الكبرى فى تاريخ الإنسانية حيث سيصبح امتلاك العلم والمعرفة بديلا عن امتلاك الثروات الطبيعية وبديلا عن قوة رأس المال وتتقدم فيه العقول المفكرة على الأيدى العاملة.
فهل تطلق مصر شرارة البدء وقيادة تحرك يهدف إلى تنفيذ هذه الاستراتيجية الثقافية للعالم الاسلامى، أعتقد أن الوقت موات للتجاوب مع مثل هذا التحرك.