هناك الآن حاجة ملحة لكى يستعيد الاقتصاد المصرى توازنه المفقود على الصعيدين الداخلى والخارجى؛ إذ فى الوقت الذى لا يكفى فيه جهده الإدخارى لتمويل تطلعاته الاستثمارية والتنموية، فإن صادراته من السلع والخدمات لا تتمكن من تغطية جميع احتياجاته الاستيرادية. وأمام هذا العجز المزدوج، ونتيجة لضعف فاعلية البرامج الحالية للتثبيت الاقتصادى فى الاقتراب من وضعية التوازن المستدام، لا يجد الاقتصاد المصرى مفرا من التوسع فى الاستدانة الخارجية، على ما بها من مشكلات جمة على حاضره ومستقبله.
وإذا كان همنا هو تجنب السقوط فى مصيدة الديون الخارجية، فليس أمامنا من حيلة فعالة غير استعادة التوازن فى التجارة الخارجية لمصر. فكيف السبيل لذلك؟!
***
قِلة فقط من الدول تصدر أكثر مما تستورد، أما الغالبية العظمى من دول العالم، فتعانى من عجز مزمن فى التجارة الخارجية. بيد أن ظاهرة العجز التجارى ليست على ذات الخطورة الاقتصادية فى جميع الدول التى تعانى منها. فالعجز التجارى لبريطانيا يختلف بكل تأكيد عن العجز التجارى للهند، والعجز التجارى لإيطاليا لا يتشابه مع نظيره اليونانى. ففى هذه الأمثلة، تعانى الدول الأربع من تفوق الواردات على الصادرات، لكن هذا التفوق قد يتفاقم ويتعمق ــ كمَّا ونوعًا ــ فى بعض الدول، وقد يستقر عند حدوده الآمنة فى بعضها الآخر. فإما عجز تجارى خارج السيطرة، أو عجز تحت السيطرة!
على كل حال، وللتفرقة بين الأنواع المختلفة للعجز، ما علينا إلا التأمل فى طبيعة ومكونات وتوجهات الصادرات والواردات فى أى دولة خلال فترة زمنية محددة. فحتى إذا كانت صادرات اقتصاد ما تقل عن وارداته من حيث الحجم، لكن معدل نموهما السنوى متناظر، ومستوى المعرفة التكنولوجية فى الصادرات تتشابه ــ أو تعلو ــ على مستواها فى الواردات، وتتنوع وجهات التصدير كما تتنوع وجهات الاستيراد؛ يمكن حينها القول بأن هذا الاقتصاد لديه استدامة فى تجارته الخارجية، وأن حصيلة صادراته قادرة على تحمل الأعباء المالية المترتبة على وارداته، وأنه لديه من الملاءة المالية ما تمكنه من خدمة ديونه الخارجية من مصادرها الحقيقية، ودون خوف من انقطاع أو تعثر أو حتى الدخول فى الدائرة المفرغة للديون.
ولو أسقطنا هذا التحليل على الاقتصاد المصرى، لوجدنا أن تجارته الخارجية خلال العقود الستة الماضية تعانى من غياب الاستدامة. فالواردات المصرية من السلع والخدمات، وما يتعين عليه دفعه من فوائد مستحقة على رصيد ديونه الخارجية، تتفوق باستمرار على صادراته السلعية والخدمية.. كما أن المكون التكنولوجى فى السلع والخدمات التى يصدرها للخارج يقل كثيرا عن المكون التكنولوجى فيما يستورده، فالصادرات السلعية المصرية من المواد الخام والسلع المصنعة والخدمات منخفضة القيمة المضافة، تقابلها واردات عالية المكون التكنولوجى وعالية القيمة المضافة. وبسبب تركز الوجهات الجغرافية لصادراته السلعية والخدمية فى عدد محدود من الوجهات الإقليمية والدولية، ترتفع درجة الحساسية فى تجارته الخارجية، وتزداد حاجته لتوسيع جغرافيا شركائه التجاريين.
***
لقد انعكست السمات العامة السابقة لتجارة مصر الخارجية فى ضعف مؤشرات الاستدامة فى هذه التجارة، وفى زيادة حاجتها للاستدانة الخارجية، وفى ارتفاع تكاليف وأعباء هذه الاستدانة. ونظرة سريعة على تطور الديون الخارجية لمصر خلال العقد الماضى كافية لكى تثبت صحة هذا الواقع. غير أننا دائما ما نؤكد على أن هذا الواقع الاقتصادى ليس هو قدر الاقتصاد المصرى المحتوم، وأنه يملك من المقومات المادية والبشرية ما تمكنه من التغلب على هذا الواقع، وما تجعله ــ بالتدريج ــ يقترب من تحقيق التوازن فى تجارته الخارجية وتقليل حاجته للاستدانة. فما هو دليلنا على ذلك؟!
إن السياسات الاقتصادية المطلوبة لتحقيق التوازن فى تجارة مصر الخارجية تتنوع حسب تنوع مسببات البعد عن هذا التوازن، وتختلف حسب هيكل ديونه الخارجية القائمة. فإزاء ضعف الجهد التصديرى الراهن، يجب إعادة النظر فى سياسات تحفيز الصادرات. ونتيجة لميل الاقتصاد المصرى للتوسع الاستيرادى، أمام صانع سياساته الاقتصادية مهمات شاقة لترشيد الاستيراد وقصره على الواردات التى تصنع له التنمية. ولضغط الحاجة للاستدانة الخارجية، تكون سياسات علاج مشكلة الاستدانة الخارجية ذات أهمية قصوى.
على أننا إذا بحثنا فى أنسب البدائل لتحفيز الصادرات المصرية، وفيما يتعلق بالسياسات العاجلة وسريعة المردود فى الأجل القصير، ستظهر أمامنا بعض الأدوات الفاعلة للسياستين المالية والنقدية. فزيادة الإعفاءات الضريبية الممنوحة لقطاع التصنيع الموجه للتصدير، وتقليص المصروفات والإجراءات والأعباء التصديرية، وزيادة مخصصات صندوق دعم الصادرات وتطوير ما به من أدوات لاستهداف المستحقين لهذا الدعم، تعتبر فى رأينا أهم السياسات المالية قصيرة الأجل. وفى إطار التنسيق مع السياسة المالية، ألا يتعين على السياسة النقدية النزول بتكاليف التمويل المتاح لقطاع التصدير للمستوى صفر، أو على الأقل للحدود الدنيا؛ أولا يستحق قطاع التصدير أن يختص بالمعاملات التفضيلية من السياسة النقدية، وأن تتوسع برامج هذه السياسة ــ كمًّا ونوعًا ــ فى المبادرات الموجهة للتصدير؟! فمن نافلة الرأى أن تتوسع برامج التوعية المصرفية، والاقتراب من المصدرين، والحوافز السعرية فى أسعار العملات الأجنبية فى الجهاز المصرفى للأنشطة التصديرية عموما، ولصادرات الصناعات التحويلية خصوصا. وبهدف تنويع هيكل الصادرات المصرية وتقليل درجة التركز فى الصادرات الريعية وشبه الريعية، وبما لديه من إمكانات تمويلية وبشرية وتسويقية وعلاقات مع روابط المصدرين، أليس من الأجدر بالجهاز المصرفى أن يطور ويبتكر حلولا مصرفية وائتمانية لتحفيز المصدرين على تحديث أصولهم الإنتاجية واقتناء التكنولوجيا الحديثة فى مجالات التصنيع ورقابة الجودة والتعبئة والتغليف.. إلخ؟! فكم من الفرص التصديرية التى ضاعت على الاقتصاد المصري ــ ومازالت ــ بسبب مشاكل سهلة التلافى فى الجودة والتعبئة والتغليف!
والسياسات الاقتصادية التى نعتقد فى فاعليتها، والتى يمكنها تشجيع الصادرات المصرية فى الأجل الطويل، تدور حول تدعيم قطاع التعليم المرتبط بأنشطة الصادرات التى تتميز مصر فيها بمزايا نسبية، كصادرات الغزل والنسيج مثلا؛ وربط سياسات التعليم الفنى الصناعى باحتياجات سوق العمل. ومن المهم فى هذا السياق الاهتمام بالمنافسة فى الجودة، وبما يقتضى من أجهزة رقابة الجودة تطوير آلياتها لترقية مستويات الجودة والمواصفات والمعايير فى الصادرات المصرية. كما يمكن لسياسة ناجحة فى جذب وتوطين التكنولوجيا الصناعية أن تساهم بفاعلية فى تشجيع قطاع الصناعة التحويلية على زيادة قدراته على المنافسة فى الأسواق الخارجية، وأن تتصدى لمشكلة التركز القطاعى والجغرافى للصادرات المصرية، وأن تجتهد فى تنويع هياكلها ووجهاتها الخارجية. وفضلا على ذلك، يجب تحقيق التعاون فى أنشطة التسويق والترويج الخارجى للصادرات المصرية، وتعزيز دور المكاتب التجارية الخارجية فى فتح الأسواق أمام الصادرات المصرية، وتذليل ما يصادفه المصدرون من عقبات.
وفيما يتعلق بالسياسات الضرورية لترشيد دالة الاستيراد فى الاقتصاد المصرى فى الأجل القصير، فإننا نعتقد فى أهمية إعادة النظر فى جداول التعريفة الجمركية على الاستيراد، وأن تعيد مصلحة الجمارك النظر فى تعريفها للسلع الكمالية والأساسية الداخلة فى تركيب هذه الجداول. مع استخدام سلاح التعريفة الجمركية فى التحيز ضد واردات السلع الكمالية لصالح واردات السلع الضرورية. ولإعادة تعريف السلع الكمالية، ليس من الصحيح أن نقتصر فى تحديد درجة كماليتها على مستوى دخل مستهلكى هذه السلع. فإلى جانب الدخل، يجب التحديد المكانى للأسواق المحلية لهذه السلع وتحديد أهميتها النسبية فى هيكل الواردات (من خلال تحديد عدد مرات استيرادها ونسبتها إلى الواردات)، كى نتمكن من الاستهداف الدقيق للسلع الكمالية التى ترفع فاتورة الواردات المصرية. ومن فائق الأهمية أيضا أن يعاد النظر فى السياسات والترتيبات الجمركية الضرورية لتعظيم الاستفادة من الاستثناءات التى تقدمها منظمة التجارة العالمية فى حماية الصناعة الوطنية، وزيادة الحواجز الجمركية أمام الواردات المهددة للشركات المصرية الصغيرة والمتوسطة. كما أن هناك ضرورة لإعادة الاعتبار التنموى لسياسة قصر الأجهزة والوحدات الحكومية على شراء المنتجات المحلية دون الأجنبية.
أما مقترحات ترشيد الاستيراد المصرى على الأجل الطويل، فإن راسم السياسة الاقتصادية المصرى مدعو أيضا للعمل على تحفيز الاستثمار المحلى فى إطار بناء استراتيجية وطنية متطورة للإحلال محل الواردات. ويمكن لسياسات الاستثمار أن تقدم دعما نقديا وتكنولوجيا وفنيا للشركات الوطنية التى تستهدف إنتاج بدائل مصرية للواردات. ويساهم فى نجاح هذه الاستراتيجية أن تصاغ بالتوازى معها استراتيجية للدعاية والتسويق الداخلى للتشجيع على استهلاك المنتجات الوطنية، من خلال استهداف الحس الوطنى لدى المستهلك المصرى كإحد ركائز هذه الاستراتيجية التسويقية الفعالة.
ولما كانت مدفوعات الفائدة على الديون الخارجية تقلل من قدرة الاقتصاد المصرى على تحقيق الاستدامة فى تجارته الخارجية، فإننا نرى أهمية صياغة سياسات اقتصادية تتصدى لتفاقم حاجته للاستدانة الخارجية. وعلى صعيد الأجل القصير، فإن الدخول فى مفاوضات مباشرة مع الدائنين، والاجتهاد فى إعادة جدولة أعباء خدمة الديون الخارجية، ومحاولة اقتناص الفرص فى تحويل الديون قصيرة ومتوسطة الأجل لديون من الأجل الطويل، هى أنسب البدائل كلما كانت متاحة وممكنة. كما أن ضغط الحاجة للديون الجديدة قصيرة الأجل يمكن أن يقلل، بالتدريج، من أعباء الفوائد المستحقة على الديون الخارجية لمصر. وإذا كان الاقتصاد المصرى يعانى من تفوق الواردات على الصادرات، وبما يزيد حاجته للاستدانة بصفة مستمرة، فإن إصلاح هذا الخلل التجارى يعتبر هو المدخل الصحيح لعلاج مشكلة تنامى أعباء الاستدانة المصرية فى الأجل الطويل. وفى ذات الأجل الطويل، يتعين على السياسة الاقتصادية الالتزام الصارم بضبط هيكل المديونية الخارجية، وبما يعنى الكف عن اللجوء للاستدانة قصيرة الأجل ثم استخدامها فى استخدامات طويلة الأجل، و/أو اللجوء للاستدانة الخارجية لتمويل أنشطة لا تزيد من الطاقة التصديرية المولدة للعملات الأجنبية.
***
إننا إذ نؤكد على ضرورة مراعاة التكامل والتناسق بين السياسات المقترحة للاقتصاد المصرى، والتى صغناها فى شكل «روشتة اقتصادية وطنية» متكاملة الأبعاد، فنحن نرجو من هذا التكامل أن يتشجع التصدير ويترشد الاستيراد ويقل الميل للاستدانة الخارجية ويضبط هيكل الديون الخارجية. ولم لا، وتحقق هذا التكامل هو الضمانة الوحيدة لكى تضيق الفجوة بين مكونات التجارة الخارجية لمصر، وأن تتمكن الصادرات المصرية من تمويل الواردات وسداد الفوائد المستحقة على الديون الخارجية دون الحاجة لمزيد من الديون، وبما يعزز من مؤشرات الاستدامة والتوازن المنشودة فى التجارة الخارجية للاقتصاد المصرى فى المستقبل القريب.. فهل من مُجيب؟!