تسليع الرعاية الصحية.. وأثر جناحى الفراشة! - علاء غنام - بوابة الشروق
الأحد 8 سبتمبر 2024 3:13 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

تسليع الرعاية الصحية.. وأثر جناحى الفراشة!

نشر فى : الجمعة 26 يوليه 2024 - 7:45 م | آخر تحديث : الجمعة 26 يوليه 2024 - 7:45 م

الرعاية الصحية حق معيارى قابل للقياس وفق معايير الإتاحة والجودة والمقبولية والمساواة. لأنها مرتبطة بالحق فى الحياة فأصبحت حقا إنسانيا ثابتا عالميا وقانونيا ولم يعد محلا للرفض أو الجدل.

ففى دراسات عديدة صادرة عن منظمة الصحة العالمية، وعن مدرسة لندن فى اقتصاد الصحة والسياسات العامة (مثلا: انظر كتابات بروفيسور سلمان رايف) أن سمة تقديرات علمية تقول إن أى مجتمع أو مجموعة بشرية طبيعية يكون توزيع عبء المرض فيها كالآتى:

   •  40 % من السكان فيها أصحاء.

   •  40 % من السكان أصحاء مع بعض عوامل الخطر.

   •  10 % من السكان أصحاب أمراض مزمنة مثل ارتفاع ضغط الدم ومضاعفاته والسكر ومضاعفاته.

   •  10 % من السكان يتعرضون لأمراض حادة مهددة للحياة.

ولذلك، حوالى 80% من السكان هم فى حاجة مستمرة لمستوى الرعاية الأساسية فى مراكز ووحدات رعاية أولية معتمدة وجيدة، وحوالى 20% هم فقط من يحتاجون إلى التدخلات فى المستشفيات والمراكز المتقدمة فى عنايات مركزة أو غرف عمليات.

• • •

يُستنتج من ذلك أنه كلما كان نظام الرعاية الأساسية قويا وفعالا كلما قلت الحاجة لدخول المستشفيات وتم الحد من تكاليف الخدمة فى النظام، والحد من اتجاه تسليع الخدمات أو التربح المبالغ فيه، والحد من تحول الرعاية الصحية من حق قابل للتنفيذ إلى سلعة غير متاحة إلا لقلة من القادرين ماليا وفق قوانين السوق والعرض والطلب. فبنظم رعاية أولية قوية وبتمويل تأمين صحى شامل ومنصف يتزن النظام بفعل أثر جناحى الفراشة التى ترف فتحدث تغيرا إيجابيا كبيرا على المدى المتوسط والبعيد لغلق فجوة اللامساواة وتحقق حلم العدالة الاجتماعية فى الرعاية الصحية.

ولأن تلك المدرسة فى تحليل النظم الصحية تعتبر النظام وسيلة إلى غاية ليصبح نظاما عادلا وكفؤا، والغاية هى تقليل العبء المالى للمرض عبر نظم تأمين صحى أو تمويل من الضرائب التصاعدية على الدخل، والحد من الدفع المباشر من الجيب للحصول على الخدمة، وتحسين مخرجات الصحة للمواطنين كمعدلات وفيات الرضع والأطفال والنساء والحوامل، وتحسين معدلات العمر المعاش دون عجز، ورضاء المواطنين عن هذا النظام.

لكل ذلك نرى أن مستوى الرعاية الأساسية فى النظام هو الأداة المثلى لتنفيذ الحق المعيارى والحد من تسليع الخدمة وتسويقها. لأن الرعاية الأساسية تستطيع التعامل مع قرابة 80% من الاحتياجات الصحية بأقل تكاليف ممكنة وتساهم فى رفع الوعى الصحى وتعظيم مسئولية الفرد عن صحته، وتقلل بذلك نسب الإحالة إلى دخول المستشفيات التى فى كل الأحوال ليست إلا محطات أخيرة للحالات الحرجة والتى يجب أن تكون دورة الإقامة فيها أقل ما يمكن من الوقت اللازم لذلك.

كل ما سبق يحد من تسليع الرعاية الصحية وتسويقها.

فما هو تسليع الرعاية الصحية؟

تسليع الصحة بمعنى تحويلها إلى سلعة تخضع إلى قواعد العرض والطلب المرنة، وهذا ما يتعارض مع مفهوم الحق الذى يؤكد عدم مرونة العرض والطلب فى هذا المجال المتعلق بالحياة نفسها شرط أن تكون رعاية جيدة ومتاحة.

فالخدمات الصحية الجيدة لا تعنى تسليع الخدمة أو تسويقها، فحسب منظمة الصحة العالمية، تشير أهداف التنمية المستدامة إلى أهمية جودة الخدمة فى مستوى الرعاية الأساسية باعتبارها رفرفة جناح فراشة وعنصرا رئيسيا فى الحماية الصحية الشاملة. فالغايات فى التنمية المستدامة من رقم 3 إلى رقم 8 فى قائمة الأهداف تدعو البلدان متوسطة ومنخفضة الدخل مثل مصر إلى محاولة تحقيق تغطية صحية شاملة بما فى ذلك الحماية من المخاطر المالية للمرض عبر نظم التأمين الصحى الشامل، وهو رفرفة جناح الفراشة الآخر إلى جانب إمكانية إتاحة خدمات الرعاية الصحية الجيدة الأساسية.

ونؤكد هنا على جناحى الفراشة الرعاية الأساسية والتأمين الشامل اللتين تحدثان تغييرا كبيرا فى النظم الصحية، ولو على المدى البعيد، وتحدثان أثرا حاسما فى قيم النظام لإصلاحه وتغيره من نظام سوق إلى نظام حماية وحقوق واحتواء التكلفة المبالغ فيها والمزيفة ومن ثم نجاح النظام والمساهمة فى زيادة الدخل القومى الكلى.

وذلك ما يعد أثر الفراشة فى مواجهة التسليع، الذى يعنى ضمن النظام الاقتصادى الرأسمالى تحويل المنتجات والخدمات والأفكار والأفراد إلى مجرد سلع وبضاعة فى السوق وأشياء تجارية قابلة فى أبسط صورها إلى التبادل المالى لتحقيق أقصى ربح مبالغ فيه.

وتؤكد المدارس الأخلاقية الاقتصادية الرشيدة، مثل مدرسة لندن لاقتصاد الصحة (سلمان رايف وأمثاله) أنه لذلك لا ينبغى معاملة بعض الأشياء كسلع أساسا مثل الرعاية الصحية الأولية والأدوية والتعليم الأساسى ومياه الشرب المنقذة للحياة والبيانات والمعلومات والمعرفة وحياة البشر فى التحليل الأخير.

وبذلك تصبح الرعاية الصحية عبر رفرفة جناحى الفراشة السابقين حقا قابلا للتنفيذ تصاعديا وتدريجيا بأقل التكاليف الممكنة، أما إذا أهملنا مستوى الرعاية الأساسية ونظم التأمين الصحى واعتمدنا على المراهنة على زيادة عدد المستشفيات وأَسِرتها والتكنولوجيا الطبية المعقدة فقط! دون تقييم وضوابط أو خطط متكاملة فى النظام، فستكون النتيجة تحويل الرعاية الصحية إلى سلعة تنطبق عليها كل معايير السوق من العرض والطلب المرن والأسعار المبالغ فيها وتتساوى فى ذلك كشراء سيارة أو ملبس أو رحلة ترفيهية استهلاكية غير أساسية.

• • •

ظلت هذه الأفكار متداولة فى مدارس الاقتصاد الصحى المحترمة والسياسات العامة التى ترتب الأولويات بشكل جيد والتى تبنت فكرة أثر جناحى الفراشة فى النظم الصحية (جناح للرعاية الأساسية وجناح للتأمين الصحى)، لتصنع موجات من النجاح والرياح الطيبة. فألهمت كثيرا من شباب الباحثين فكرة أهمية الأولويات وفكرة أثر الفراشة فى النظم الصحية التى تعنى غلق فجوة اللامساواة وتحقيق العدالة الاجتماعية. ذلك الأثر الذى يعبر عن فلسفة مفادها أن الأشياء الصغيرة يمكن أن تكون ذات تأثيرات ضخمة بعيدة المدى سواء سلبا أو إيجابا فى النظم المعقدة لإصلاحها، وكيف أن حبة رمل تضعها فى مكانها الصحيح يمكن أن تغير العالم للأفضل، فالتغيرات الرشيدة البسيطة يمكن أن تؤدى إلى نتائج كبيرة. ولذلك فنحن ضد تسليع الرعاية الصحية ومع رفرفة جناحى الفراشة بالتأمين الصحى الشامل فى تنفيذ الحق فى الرعاية الصحية والصحة.

وتلك النظرية ابتكرها العالم إدوارد لورينتز، عام 1963، حين قال رفرفة جناح فراشة فى الصين يؤدى إلى مناخات كبيرة وعاصفة فى أبعد مكان فى العالم. ويعرف تأثير ذلك فى علم النفس بأنه ميل نظام ديناميكى معقد يكون حساسا للظروف والمعطيات الأولية سواء سلبية كتسليع أو إيجابية كالحق المجتمعى فى الصحة بمرور الوقت والصبر والإرادة تكون سببا فى تأثيرات كبيرة غير متوقعة.

وهذا ما حاولنا فعله وتنفيذه منذ بدايات إصلاح النظام الصحى عام 1999 بوضع رفة جناح فراشة فى وحدات لطب الأسرة وصندوق للتأمين الصحى التجريبى يمهد لنظام تأمين صحى شامل، ومرت سنوات على ذلك وتحققت بعض النجاحات لمنع التسليع، ولكن عدنا بسبب نقص الإنفاق العام الصحى فى مصر والأزمة الاقتصادية التى نمر بها والتضخم إلى منطق تسليع الرعاية عندما طرحنا عقودا لتأجير مستشفياتنا العامة أخيرا، والذى نرجو ألا يحدث هذا التأثير السلبى لجناحى الفراشة نحو مزيد من تسليع الرعاية الصحية ما يشكل خطرا على نظامنا الصحى برمته وتحويله إلى سوق مفلوت يحرم غالبية السكان من حقهم الطبيعى فى الحماية والرعاية الصحية بسبب مرونة العرض والطلب، والدفع المباشر المالى للحصول على الخدمة، وغياب قيم التضامن المجتمعى، والحوكمة الرشيدة، والتشاركية، والمساءلة والشفافية، وعدم التمييز، واحترام الدستور، والقانون التأمينى الشامل.

علاء غنام مسئول الحق فى الصحة فى المبادرة المصرية للحقوق الشخصية وخبير فى إصلاح القطاع الصحى
التعليقات