وافق مجلس الوزراء فى اجتماعه أواخر الشهر الماضى على مشروع قانون جديد لتنظيم المسئولية الطبية وحماية المرضى، حيث كان مشروع هذا القانون أحد مطالب الحوار الوطنى، إضافة إلى أنه على أجندة الإصلاح الصحى منذ قرابة عشرين عاما تقريبا.
يستهدف مشروع القانون تحقيق عدة اعتبارات منها التأكيد على الحقوق الأساسية لمتلقى الخدمة الطبية من المرضى أيا كان نوعها، والارتقاء لتنظيم هذه الحقوق مع توحيد الإطار الحاكم للمسئولية المدنية والجنائية التى يخضع لها مزاولو المهن الطبية فى صعيد واحد.
كما يستهدف مشروع القانون إنشاء لجنة عليا تتبع رئيس مجلس الوزراء تسمى اللجنة العليا للمسئولية الطبية وحماية المريض، تتولى إدارة المنظومة الطبية العامة والخاصة من خلال آليات محددة قد يتم التوسع فيها مستقبلا بعد تقييم التجربة وقياس نتائجها، حيث إن أى قانون لا يتم التأكد من فعاليته إلا عبر تجربته وتنفيذه، ويتيح مشروع القانون توفير آليات للتأمين الإلزامى للمنشآت الطبية ومقدمى الخدمة من مزاولى المهن الطبية عبر صندوق حكومى مالى يتولى المساهمة فى التعويضات المستحقة عن الأخطاء الطبية، كذلك إتاحة إمكانية قيام هذا الصندوق بالمساهمة فى تغطية الأضرار الأخرى التى قد تنشأ أثناء وبسبب تقديم الخدمة الطبية ولا صلة لها بالأخطاء الطبية.
يأتى مشروع القانون فى ثلاث مواد إصدار بخلاف مادة النشر التى تقع فى ثلاثين مادة موضوعية مقسمة فى خمسة فصول منها ما يتعلق بالالتزامات الخاصة بمقدم الخدمة والمنشأة، والتعويض عن الأضرار الناجمة عن الأخطاء الطبية وغيرها من مواد العقوبات لمن يخالف أحكام هذا القانون، ويبين مشروع القانون ما يتعين على مقدم الخدمة الالتزام به والأمور التى يحظر عليه الإتيان بها، كما يسرد مشروع القانون الحالات التى تنتفى بها المسئولية الطبية.
• • •
تعد تلك الخطوة من الحكومة استجابة إيجابية طال انتظارها، فالواقع أن الممارسات الطبية كانت تفتقد مثل هذا التشريع الملزم الذى كان دائما محلا للانتظار والجدل، حيث اعتمدت هذه الممارسات على أطر أخلاقية أو لائحية محدودة التأثير لم يعول عليها كثيرا فى الممارسات العملية للمهن الطبية وحماية المريض، ولم تردع كثيرا العديد من الممارسات المتجاوزة لأهداف المهنة الإنسانية حيث تصاعدت وتيرتها فى العقود الأخيرة لأسباب عديدة اجتماعية واقتصادية وثقافية.
فى هذا السياق كانت أطر المسئولية الطبية للأطباء وممارساتهم تعتمد إلى حد كبير على إطار أخلاقى عام ولائحة نقابة الأطباء لممارسة المهنة المحدثة عام 2003، وهذا ما كان يدفع فى كثير من الحالات التى تتضمن سوء ممارسة أو أخطاء إلى الوقوع تحت طائلة قوانين العقوبات العامة.
هذا الإطار الأخلاقى الذى كان تعتمد عليه لائحة النقابة قديما يبدأ بقسم يسمى قسم أبقراط، الذى يعد قسما تاريخيا يرجع إلى عصر الطب اليونانى القديم والذى عدل بعد ذلك نصه، ونقتبس منه بعض الجمل بذات الدلالة كالآتى (وسوف أظل حريصا على منع نفسى عن الكلام عن الأمور المخجلة التى أراها أو أسمعها أثناء فترة المعالجة فيما يتعلق بحياة الناس والتى لا يجوز لأحد أن ينشرها، وإذا ما وفيت بهذا القسم ولم أحِد عنه، يحق لى حيئذ أن أهنأ بالحياة).. أبقراط أبو الطب عند اليونان القدماء.
وهكذا ومنذ قرون ظل الأطباء يلتزمون بقسم ما، برغم تغير صياغاته بعد ذلك بما يلائم العصر والثقافة السائدة من بلد لآخر، كان مضمون القسم الأخلاقى هو ذاته كما هو، وهو أهمية الحفاظ على خصوصية وكرامة المريض وحفظ أسراره مهما كانت، والالتزام ببذل الرعاية الطبية للقريب والبعيد وللصالح والمخطئ والصديق والعدو… إلخ.
• • •
فى مجال الحفاظ على سرية المريض وخصوصيته، يعرّف إفشاء السر حسب المراجع العلمية الخاصة بالأخلاقيات الطبية هو اطلاع الغير بسر معين يود المريض الاحتفاظ به. ووسائل إفشاء السر قد تتم شفاهة أو كتابة أو عن طريق تقرير كما يجوز أن يكون الإفشاء جزئيا أو يكون كليا، وقد يكون صراحة أو ضمنيا، وقد يكون بذكر شخصية المريض صراحة أو ما يدل عليه بحيث يستطيع المتلقى أن يعرف شخصية المريض.
هناك حالات معينة محددة فى قانون العقوبات المصرى حسب مادته رقم 310 لا يعد إفشاء السر فيها جريمة، مثل الإبلاغ عن مرض وبائى ومعدٍ، أو عن حالات الوفيات أو المواليد،
وأيضا إذا كان المريض قاصرا فيجوز بل يجب على الطبيب إفشاء سر المريض لمن يعوله.
تتضمن لائحة آداب المهنة إضافة إلى المقدمة والقسم عدة فصول عن دور الطبيب تجاه المرضى وتجاه المجتمع وتجاه زملاء المهنة. وهى لائحة تم آخر تحديث لها كما أسلفنا عام 2003 مما ترك فجوة تشريعية فى مجال المساءلة الطبية بجانبيها المدنى والجنائى، جعلت بعض القضايا الطبية تقع تحت طائلة قانون العقوبات مباشرة مما شكل خللا فى التعامل مع هذه القضايا الفنية الشائكة المتعلقة بالممارسة الطبية هذا من ناحية، وعلى الجانب الآخر تركها للأخلاقيات الطبية العامة التى يلتزم بها كل طبيب على حدة حسب رؤيته لها وخلفيته الخاصة الثقافية والاجتماعية.
كل ما سبق جعل قانون المسئولية الطبية هو الحل الأمثل لتحديد جميع الحقوق الخاصة بالمرضى والواجبات الخاصة بمقدمى الخدمة بشكل ملزم ومحكم وقانونى. وتقوم لجنة عليا تابعة لرئيس مجلس الوزراء بدور البت فيما يعرض عليها من قضايا متعلقة بالمهنة التى تعد أشرف المهن وألصقها بحياة الإنسان وحقوقه، وفق مشروع القانون هذا الذى ينتظر مناقشته فى مجلس النواب سيصبح الإطار الحاكم لهذه الممارسات التى سادت فى الفترة الأخيرة بتصاعد فى المجال الطبى، وهذا ما يجعلنا ندرك ضرورة سرعة إصداره دون تعطيل أو إرجاء تحت أى ذريعة من الذرائع لتعود للمهنة هيبتها وكرامتها ولنضمن للمريض حقوقه عند التعامل معها فى إطارها العام أو أطره الخاصة المتعددة.
• • •
إلى جانب مشروع القانون، ثمة بعد ثانٍ للمشكلة المتعلقة بالمسئولية الطبية يتعلق بالتعليم الطبى وتطويره، فالمسئولية الطبية هنا ليست فردية لأنها مرتبطة بالمنظومة الصحية ككل ومدى نجاح مسار إصلاحها الذى بدأ منذ ثلاثين عاما على الأقل، وطُرح فى مسار الإصلاح ضرورة تطوير التعليم الطبى الذى يجب أن يشمل فى مناهجه علوما إنسانية مثل الأخلاقيات الطبية وعلم الاجتماع الطبى وحقوق المرضى والمسئولية المدنية والجنائية والأخلاقية للأطباء والسياسات الصحية، فبدون تلك المعارف والعلوم والأطر المعرفية لا يصلح الطبيب ليكون حكيما كما أطلقت عليه لغتنا العربية وثقافتنا لممارسة أنبل المهن على الإطلاق، من ثم فنحن ندعو للانتهاء سريعا من مشروع قانون المسئولية الطبية المطروح بجانبيه المدنى والجنائى على مجلس النواب دون مزيد من الفرص الضائعة التى تساهم فى مزيد من الخلل داخل تلك المنظومة وقيامها بواجبها.