توقعت أن يدير الكثيرون، وخصوصا فى تونس ومصر:
البلدين اللذين نجحت فيهما الثورة فى استئصال رأس النظام الفاسد القديم، حوارا موسعا مع الرسالة القيمة التى وجهها الزعيم الأفريقى الكبير نيلسون مانديلا للثوار العرب، والتى نشرت ترجمتها فى أكثر من صحيفة عربية وموقع إلكترونى. خصوصا أن الثورة لم تنجح فى أى منهما فى تحقيق شعارها الأول «الشعب يريد إسقاط النظام» حتى الآن، ناهيك عن بقية شعاراتها. فقد كانت الثورة واعية، بأنه إذا كانت السمكة تفسد من رأسها، وهذا حال الفساد فى عالمنا العربى كله، فإن إسقاط النظام يبدأ بإسقاط الرأس. ونجحت تونس ثم مصر فى إسقاط رأس النظام. لكن المفارقة المؤسية، هى أنه وبعد مرور أكثر من ستة أشهر لايزال النظام فى كل منهما، وبدرجات متفاوتة، حيا ومتحكما فى السلطة.
اكتفى حقا بالتضحية برأسه، مادام هذا هو الثمن الذى كان عليه أن يدفعه فى وجه عاصفة الثورة كى تمر؛ وهو السبيل إلى تشبث بقايا النظام بالاستمرار فى الحكم، وبقاء النظام، دون تغيير جذرى يذكر حتى الآن، تحت مسميات جديدة، ودعاوى زائفة بتمثيل الثورة، والحكم باسم شرعيتها الجديدة.
إشعال الثورة بأدوات إنتاج الثروة
فلم يكن من حظ أى من الثورتين التونسية والمصرية، أن يكون لدى أى منهما رمز وزعيم من وزن نيلسون مانديلا الفكرى، وتاريخه النضالى، وعمق بصيرته، جاهزا كى يقود مسيرة الثورة حينما اقتربت من تحقيق أهدافها، كما كان الحال مع جنوب أفريقيا. ولا كان حتى بين أعدائها شخص بحكمة ديكليرك ووطنيته. فقد كانت الثورتان التونسية والمصرية بحق النتاج الطبيعى لاستراتيجيات القرن الحادى والعشرين الجديدة ورؤاه الفكرية المغايرة؛ والتى تطرح التعدد فى مواجهة الواحدية، والهدف العملى البسيط فى مواجهة السرديات الكبرى والأفكار الأيديولوجية، والتشظى فى مواجهة التماسك، وسيولة بنية السلطة اللينة فى مواجهة المركزية والقبضة الحديدية التى تحللت وتهشمت أمام تلك الاستراتيجيات الجديدة فى أيام معدودات، برغم تسلحها بأجهزة أمنية جبارة.
لكن أهم ما ميز الثورتين هو تحلى كل منهما بالموقف الأخلاق الأعلى فى مواجهة العفن والتردى والفساد الذى كان ينتشر مع الهواء فى كل موقع، وكان الجميع يعانون منه فانطلقوا ضده دون تنظيم أو إعداد مسبق. ويرافق تلك الاستراتيجيات الجديدة مفارقة مدهشة وهى أن الثورتين اشتعلت شرارتاهما بأدوات إنتاج الثروة (من الهاتف المحمول ووسائل الإعلام والإنترنت وأخواتها) التى حرم منها مشعلوها. فقد كان حرمان جيل الشباب من الثروة، وتركيزها فى أيدى مافيا العائلة، بصورة سدت الأفق الاجتماعى والاقتصادى أمام الجيل الجديد، هو الذى أطلق شرارة الثورة. وكان الجيل الذى سد النظام القديم فى وجهه الأفق، قد فتح أمامه القرن الجديد الأفق المعرفى، وعالم الاتصالات والتواصل بلا حدود، فنظم عبرها ثورته.
تغيير بنيوى
وهذا التغير البنيوى فى قواعد المواجهة هو سر عظمة الثورة المصرية، ومصدر رقيها ونبلها، ولكنه للأسف أيضا مكمن أزمتها وسر ضعفها. واسمحوا لى أن أقصر الحديث هنا على الثورة المصرية، فبرغم وجوه الشبه الكثيرة مع أختها التونسية، فإن لكل ثورة خصوصياتها وتفرداتها. فلأول مرة فى التاريخ تنجح الثورة فى قلب النظام دون أن تصل إلى الحكم لتستأصل شأفته كى تحقق شعاراتها ورؤيتها، وتفرض برنامجها وأولوياتها.
والواقع أن الحديث عن «رؤية وبرنامج» يرتد بنا إلى استراتيجيات ما قبل القرن الحادى والعشرين، ومحددات الرؤية فيه. لذلك لابد من العودة لشعارات الثورة البسيطة والعريضة: «إسقاط النظام» لتحقيق «الكرامة، والحرية، والعدالة الاجتماعية». والابتعاد عن الأفكار الكبيرة والأيديولوجيات، لأن الطلاق معها هو إحدى سمات القرن الجديد الذى خرج من رحم التقويض المزلزل للسرديات الكبرى. لذلك فإن جر الثورة إلى أى جدل أيديولوجى عقيم (كجدل الدولة المدنية أم الدينية) هو صنو النكوص بها إلى أرض القرن العشرين واستراتيجياته التى تجيدها القوى القديمة من الإخوان المسلمين وحتى فلول النظام القديم.
لذلك علينا الالتفات إلى رسالة مناضل قارتنا الكبير، نيلسون مانديلا، للثورات العربية. إذ يعى مانديلا، كأى ثائر حقيقى، مسئوليته إزاء هاتين الثورتين، فقد ساندت شعوبهما، والشعب العربى عامة، نضال شعبه فى جنوب أفريقيا لعدة عقود، حتى كلل هذا النضال بالانتصار. ولكنه، كأى ثائر حقيقى، يعى أيضا حساسية الثورات لأى تدخل خارجى، لذلك يبدأ رسالته بالاعتذار أولا، وبالتذرع برد الجميل ثانيا. وإن كان وراء كل من الاعتذار والتذرع برد الجميل كى يسدى النصح ويطرح تجربته أمام الثوار العرب، خوف حقيقى على الثورتين، وإحساس مضمر بتنكبهما سواء السبيل. لذلك يعود بالثوار العرب الذين يتوجه لهم بخطابه، للحظة الإفراج عنه بعد أكثر من ربع قرن وراء القضبان: وكيف أن السؤال الأساسى الذى كان يلح عليه وقتها هو: كيف سنتعامل مع إرث الظلم لنقيم مكانه عدلا؟ وهو كما يقول، وعن حق، السؤال الذى يشغل ثوار مصر وتونس، وسوف تحُدّد الإجابة عليه طبيعة الاتجاه الذى ستنتهى إليه الثورتان، ومدى نجاح كل منهما فى تحقيق أهدافها.
لأن هدم الظلم سهل يسير، أما بناء العدل فهو أكثر مراوغة وأشد صعوبة.
رؤية مانديلا الثاقبة
وتكشف رسالة مانديلا عن أنه برغم اعتزاله العمل السياسى بعد نضال مظفر طويل، لايزال يتابع عن كثب ما يدور فى الثورتين، بشغف ثائر حقيقى حريص على أن تحقق كل منهما أهدافها المبتغاة. لذلك يقلقه ما يراه من شقاق، ومن تركيز على الهدم لا البناء، ومن رغبة فى القصاص. يقول مانديلا للثوار العرب بشأن أنصار النظام الساقط: «أنا أتفهم الأسى الذى يعتصر قلوبكم وأعرف أن مرارات الظلم ماثلة، إلا أننى أرى أن استهداف هذا القطاع الواسع من مجتمعكم قد يسبب للثورة متاعب خطيرة، فمؤيدو النظام السابق كانوا يسيطرون على المال العام، وعلى مفاصل الأمن والدولة، وعلاقات البلد مع الخارج».
ويحذرهم من أن التركيز على استهدافهم، بدلا من التركيز على البناء، والاستفادة منهم فيه، «قد يدفعهم إلى أن يكون إجهاض الثورة أهم هدف لهم فى هذه المرحلة التى تتميز عادة بالهشاشة الأمنية وغياب التوازن. أنتم فى غنى عن ذلك، أحبتى!» والواقع أن ما يحذر منه مانديلا هو ما تعانى منه الثورتان.
إذن ما هو الحل الذى يطرحه مانديلا؟ «أعلم أن مما يزعجكم أن تروا ذات الوجوه التى كانت تنافق للنظام السابق تتحدث اليوم ممجدة الثورة، لكن الأسلم ألا تواجهوهم بالتبكيت إذا مجدوا الثورة، بل شجعوهم على ذلك حتى تحيّدوهم، وثقوا أن المجتمع فى النهاية لن ينتخب إلا من ساهم فى ميلاد حريته... أذكر جيدا أنى عندما خرجت من السجن كان أكبر تحد واجهنى هو أن قطاعا واسعا من السود كانوا يريدون أن يحاكموا كل من كانت له صلة بالنظام السابق، لكننى وقفت دون ذلك؛ وبرهنت الأيام أن هذا كان الخيار الأمثل.. لذلك شكلت «لجنة الحقيقة والمصالحة» التى جلس فيها المعتدى والمعتدى عليه وتصارحا وسامح كل منهما الآخر. إنها سياسة مُرّة لكنها ناجعة!
تخيلوا أننا فى جنوب إفريقيا ركزنا ــ كما تمنى الكثيرون ــ على السخرية من البيض وتبكيتهم واستثنائهم وتقليم أظافرهم؟ لو حصل ذلك لما كانت قصة جنوب إفريقيا واحدة من أروع القصص النجاح الإنسانى اليوم».
ولاشك أن تجربة جنوب أفريقيا قد أصبحت بسبب حكمة مانديلا وبصيرته أبرز قصص النجاح فى قارتنا السوداء، كما أنها وبعد أقل من عقدين من الزمان أصبحت إحدى القوى الصاعدة على صعيد العالم (مجموعة الخمسة المسماة BRICS وهى الحروف الأولى من أسماء البرازيل، روسيا، الهند، الصين، وجنوب أفريقيا).
فكيف نستفيد من حكمة مانديلا وعمق بصيرته تلك، كى تصبح مصر أحد اللاعبين الأساسيين فى عالمها بعد عقد أو عقدين من الزمان؟ لن يكون ذلك بالقطع باستنساخ تجرية جنوب أفريقيا، لأن جنوب أفريقيا لم تستنسخ تجربة أحد قبلها؛ وإنما أبدعت تجربتها الخاصة، وأصبحت بفضلها قوة لا يستهان بها. وإنما بإبداع تجربة مصرية خالصة، لا تقل جدة وعبقرية وابتكارا عن تجربة الثورة نفسها، والتى يحترمها العالم ويقدرها أكثر من احترام من يحكمون باسمها أو تقديرهم لها.
وأن يتسم الجواب كما اتسمت الثورة نفسه بالوعى بمتغيرات القرن الحادى والعشرين والاستجابة فى الوقت نفسه لشعارات الثورة فى تحقيق الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية. فكيف يكون ذلك؟ هذا سؤال قد أتوقف عنده فى المقال القادم، ولكنى أدعو كل المخلصين للثورة بالتوقف عنده، وتأمله، والبحث عن جواب جمعى له قبل أن تنزلق الثورة، لا قدر الله، إلى طريق الإخفاق والنكوص!