الانسحاب المخطَّط له للولايات المتحدة (وحلفائها) من أفغانستان، والمستمر فى هذه الأيام، يدور فى ظل انطباع قاس أنه هو الذى سمح بالسيطرة السريعة لطالبان على الدولة، بينما القيادة الأفغانية، التى دُرِّبت وسُلِّحت طوال أعوام كثيرة وصُرفت عليها مليارات الدولارات، لم تحرك ساكنا لوقف هذه التطورات. سلسلة التطورات الفوضوية السريعة طرحت بشدة فى داخل الولايات المتحدة وخارجها سؤالا عما إذا كان لا مفر من هذه التطورات أم أن ما يجرى هو فشل قيادى، وفى الأساس استخباراتي؟
حتى لو تعلق الأمر بمفاجأة استخباراتية، فلقد كان لدى الإدارة الأمريكية الوقت الكافى للإعداد لانسحاب منظم لكل قوات الناتو حتى الموعد الرسمى 11 سبتمبر، ومنع الانطباع بأن ما يحدث هو «هروب»، والقيام بإجلاء الأفغان الذين تعاونوا مع الأمريكيين وحلفائهم خلال أعوام بقائهم فى أفغانستان. وكان فى إمكان الإدارة الأمريكية تنسيق عملية إقليمية مع الدول المجاورة، فى الأساس باكستان، والصين، والهند، وروسيا، وتركيا، لتقليص خطر تحوُّل أفغانستان مجددا إلى دولة غير مستقرة تُستخدَم قاعدة للإرهاب، والاستعداد لمواجهة التداعيات الإنسانية والسياسية والاقتصادية لإنهاء الوجود الأمريكى.
هناك سؤال مركزى إلى جانب الأسئلة المتعلقة بسوء التقدير الأمريكى هو إلى أى حد حققت الولايات المتحدة أهداف المعركة فى «المغامرة» الأفغانية التى استمرت 20 عاما. لقد غزت الولايات المتحدة أفغانستان بهدف اقتلاع القاعدة و«بناء أمة» فى أفغانستان بحسب النموذج الديمقراطى الغربى. وبينما تحقق الهدف الأول إلى حد كبير إلا أن الولايات المتحدة فشلت فى تحقيق الهدف الثانى للأسباب عينها التى أدت إلى فشلها فى العراق. هذه الإخفاقات تدل على عدم القدرة على فرض تغييرات سياسية من الخارج وبالقوة على مجتمع غير ناضج وخصوصا فى فترة زمنية قصيرة. فإنهاء المعركة بعد تحقيق الهدف الأول من دون محاولة إعادة صياغة الساحة الأفغانية كان سيوفر على الولايات المتحدة إحراج الانسحاب.
على أى حال، لم يكن هناك مفر من قرار الرئيس بايدن، وهو لم يكشف فقط إدراكه لحدود قوة الولايات المتحدة، بل أيضا حقق رغبة الرئيسين اللذين سبقاه. وحتى لو أن الرئيس بايدن سيُنتقد لتقليله من قوة طالبان ومبالغته فى تقدير قوة الجيش الأفغانى، فإن التعب الكبير الذى يسود الجمهور الأمريكى جرّاء التورط فى صراعات دولية سيعوض عن النقد ويتغلب عليه، وثمة شك فى أن الرئيس سيتضرر سياسيا فى المدى البعيد من تحقيقه الرغبة فى الانسحاب.
من السابق لأوانه تقدير التداعيات الكاملة للتطورات الأخيرة. ستتضرر فى الأمد القصير بالتأكيد صورة الولايات المتحدة كقوة عظمى وثقة حلفائها بمدى استعدادها لأن تهب لمساعدتهم. وحتى لو كان المطلوب من طالبان فى الفترة القريبة العمل على ترسيخ سلطتها فى أنحاء أفغانستان، فمن المتوقع أن تحتفل طالبان مع القاعدة بانتصارهما على قوة دولية عظمى. ومن المتوقع أن يحاول لاعبون دوليون مختلفون فحص مدى قوة وحزم الولايات المتحدة والبحث عن فرصة لاستغلال الضرر الذى لحق بصورتها من أجل الدفع قدما بمصالحهم. مع ذلك، ليس من الواضح كيف سيترجَم الإخفاق الأمريكى الحالى إلى تحدٍّ استراتيجى يهدد مكانة الولايات المتحدة فى المدى البعيد.
حاليا تزداد معقولية أن الدول المحيطة بأفغانستان ستكون مهددة بسبب عدم الاستقرار فى أفغانستان. إن خطر توجيه طالبان اهتمامها نحوهم سيجبر هذه الدول على توظيف موارد كبيرة لمواجهة التهديدات المحتملة من هذا الاتجاه. فى المقابل حدوث تطورات فى هذا الاتجاه سيخدم المصالح الأمريكية خصوصا، والغربية عموما. وفعلا لدى شرح الانسحاب شدد الرئيس بايدن على أن الصين وروسيا كانتا ترغبان فى بقاء الولايات المتحدة فى أفغانستان لإضعافها وللدفاع عن مصالحهما.
بالنسبة إلى إسرائيل، من المهم فحص التطورات على ثلاثة مستويات:
التأثير فى حافز التنظيمات الإرهابية ــ سيطرة طالبان السريعة على أفغانستان وتقديم سردية أنها نجحت فى التسبب بفشل أمريكى يمكن أن يعزز الحافز لدى جهات إرهابية متطرفة لزيادة نشاطها على الساحة الدولية، بما فيها فى الشرق الأوسط ضد أهداف إسرائيلية. مع ذلك كان دور الولايات المتحدة صغيرا فى محاربة التنظيمات الإرهابية التى تعمل ضد إسرائيل، لذا، ثمة شك فى أن الانسحاب من أفغانستان سيغير بصورة كبيرة تقدير هذه التنظيمات الإرهابية للوضع فيما يتعلق بحجم عملياتهم والأهداف.
السلوك الإقليمى لإيران ــ ترى إيران فى الانسحاب الأمريكى تطورا إيجابيا بالنسبة إلى المصلحة الإيرانية الرامية إلى طرد القوات الأمريكية من الشرق الأوسط. ويأملون فى طهران بأن تكون المرحلة المقبلة فى عملية تقليص القوات الأمريكية فى المنطقة هى الانسحاب من العراق. هذا التطور سيحسن بصورة كبيرة الأمن فى «الباحة الخلفية» لإيران.
علاقات إسرائيل بالولايات المتحدة ــ ليس من المتوقع أن تخرج الإدارة الأمريكية عن سياستها التى تدفع قدما بانفصال الولايات المتحدة عن مراكز قتال «لا نهاية له» بحسب وصفها، بما فى ذلك عملية تقليص وجودها العسكرى فى الشرق الأوسط. الإدراك السائد وسط لاعبين فى المنطقة بأن الشرق الأوسط فقد أهميته فى مجمل اعتبارات الأمن القومى الأمريكى أجبر هؤلاء اللاعبين على تحديث تقديرهم إزاء السلوك الذى ينبغى أن يسلكوه. يبدو أن هذا الإدراك يمكن أن ينعكس على تقديرهم لحجم الدعم الذى من المتوقع أن تمنحه الولايات المتحدة لإسرائيل فى مواجهة تحديات إقليمية.
بالإضافة إلى هذا كله، يتعين على إسرائيل إدراك أن نظريا وعمليا ثمة فرصة ضئيلة فى أن تكون الإدارة الأمريكية مستعدة لتوظيف موارد عسكرية فى المستقبل فى مواجهة تحديات إقليمية، بينها التحدى الإيرانى. مع ذلك، فإن توجه الانفصال عن الشرق الأوسط يمكن أن يعزز قيمة إسرائيل كدولة قادرة على مساعدة الولايات المتحدة للمحافظة على مصالحها والدفع بها قدما فى المنطقة.