حدود القوة الإسرائيلية - بشير عبد الفتاح - بوابة الشروق
الإثنين 25 نوفمبر 2024 7:17 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

حدود القوة الإسرائيلية

نشر فى : الإثنين 26 أغسطس 2024 - 6:30 م | آخر تحديث : الإثنين 26 أغسطس 2024 - 6:30 م

 تشى دروس التاريخ، بأن التعويل على القوة العسكرية، وحدها، لا يمكن أن يحسم الصراعات، أو يحقق أهداف السياسة الخارجية للدول. فمهما بلغت فعاليتها، ستصطدم، لا محالة، بتحديات تجعل الإفراط، أو التمادى فى استخدامها، دونما تعقل، مصحوبًا بعواقب غير محمودة.

فى سفره العمدة، المعنون: «تحليل السياسة الخارجية»، الصادر عام 1989، يسلط أستاذنا الراحل الدكتور محمد السيد سليم، الضوء على العلاقة بين امتلاك الدولة للقوة، وفعالية سياستها الخارجية. حيث يؤكد أنها ليست علاقة طردية فى كل الظروف، إذ لا يوجد توافق حتمى بين الأمرين. ذلك أن امتلاك القوة، لا يضمن بالضرورة تحقيق الأهـداف الاستراتيجية. فقد تمتلك الدولة أسباب القوة، لكنها لا تستطيع بلوغ غايات سياستها الخارجية، وربما يحدث العكس أحيانًا.

بدوره، يتقصى آندرو باسيفتش، أستاذ التاريخ والعلاقات الدولية بجامعة بوسطن، فى كتابه المعنون: «حدود القوة.. نهاية الاستثنائية الأمريكية»، الصادر عام 2008، مختلف التحديات، التى تلاحق الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. فلقد أفقدتها وضوح الرؤية، وأهدرت مصادر ثروتها وركائز قوتها، ما أماط اللثام عن حدود القوة الأمريكية فى إعادة تشكيل العالم. إذ لاحت إرهاصات تلك الحدود فى الحرب الكورية (1950-1953)، ثم ظهرت جلية إبان حرب فيتنام (1962-1973)، وتكرست مع الانسحاب الأمريكى من أفغانستان عام2021، بعد عقدين من التخبط الاستراتيجى. وهكذا، تلاقت طروحات، أباسيفيتش، مع رؤى، سليم، بشأن انحسار تأثير القوة العسكرية، فى تحقيق أهداف السياسة الخارجية للدول.

مطلع تسعينيات القرن الماضى، قال الرئيس السوفييتى الراحل ميخائيل جورباتشوف، لنظيره السورى الراحل، حافظ الأسد: «إن اعتماد القوة العسكرية آلية لحل الصراع فى الشرق الأوسط فقد صدقيته». واليوم، تحذرالإدارة الأمريكية حكومة، نتنياهو، من السقوط فى براثن «جنون القوة»، إلى حد الإمعان فى ارتكاب جرائم الإبادة، التجويع، التطهير العرقى، جرائم حرب، جرائم ضد الإنسانية، وتطبيق سياسة «الأرض المحروقة».

فضمن استراتيجية «الردع بالعقاب»، تبنى جيش الاحتلال، منذ عام 2008، «عقيدة الضاحية» استراتيجية محورية فى حروبه ضد حركات المقاومة والتجمعات المدنية، التى تشكل قواعد دعم لها. وتعتمد تلك العقيدة مبادئ شتى، أبرزها: استخدام القصف الجوى المكثف لتقويض قدرات المقاومة، عبر التدمير الشامل لبنيتها التحتية، ومنشآتها الحيوية والرمزية. وبلوغ الردع من خلال العقاب الجماعى، والتنكيل بالمدنيين، بغية محاصرة تنظيمات المقاومة، وتجريدها من حاضنتها المجتمعية.

أخفق جيش الاحتلال الإسرائيلى فى إدراك «النصر المطلق»، الذى طالما تغنى به، نتنياهو. فللمرة الأولى منذ حرب عام 1973، استدعى قرابة 350 ألف ضابط وجندى بالاحتياط، واستخدم أبشع أساليب العنف، واستنفد كميات هائلة من الأسلحة والذخيرة.كما دعم اعتداءات المستوطنين على الفلسطينيين وممتلكاتهم بالضفة والقدس، ما أسفر عن استشهاد قرابة 700، وإصابة زهاء 6000، مع مصادرة مساحات شاسعة من المزارع والمراعى الفلسطينية. بيد أن كل تلك الجرائم لم تفلح فى تحقيق مآرب حكومة، نتنياهو، من العدوان، والمتمثلة فى: قهرحركة حماس والإجهاز على قدراتها العسكرية، إعادة الأسرى الإسرائيليين بالقطاع، ضمان عدم تكرار سيناريو «طوفان الأقصى»، وإنهاء التهديدات المتجددة ضد العمق الإسرائيلى. وبموازاة فشله فى فك الارتباط العملياتى بين فصائل المقاومة الفلسطينية وجبهات إسنادها المتمركزة فى لبنان، اليمن، سوريا والعراق؛ يتلقى جيش الاحتلال ضربات موجعة يوميًا من المقاومة الفلسطينية فى جميع نقاط توغله. ورغم القوة النيرانية المذهلة، الإمكانات التكنولوجية المتطورة، والتغطية الجوية المكثفة لمناطق العمليات البرية، فإنه لم ينجح فى تحييد منظومة أنفاق المقاومة، أو هجمات مسيراتها ومقذوفاتها. ولا يزال عصيًا على نتنياهو، إعادة ما يربو على مائة ألف نازح إسرائيليى داخليًا من مستوطنات وبلدات غلاف غزة والجليل، تحت وطأة ضربات المقاومة المتواصلة. وحسب بيانات جيش الاحتلال، بلغت حصيلة قتلاه، منذ بداية اجتياحه البرى لغزة فى 27 أكتوبر الماضى، 700 قتيل، بينهم 360 ضابطًا وجنديًا، وأكثر من 10,000 جريح، منهم 3,700 تلقوا إصابات بالأطراف، أما على جبهة لبنان، فقد أفاد موقع والا الإسرائيلى، بمقتل 44 إسرائيليًا، بينهم 24 مدنيًا، 19 ضابطًا وجنديًا، فيما أصيب 271 آخرون، منهم141 جنديًا وضابطًا، منذ بداية المواجهة مع حزب الله فى الثامن من أكتوبر الماضى.

بينما لم تؤت استراتيجية «الردع بالعقاب» أكلها، تراءى لقيادات جيش الاحتلال، أن حرب غزة الحالية أظهرت حاجته الماسىة إلى زيادة عدد قواته النظامية والاحتياط. ومن ثم، يستهدف، نتنياهو، تجنيد 4800 من اليهود الحريديم هذه السنة، معتقدًا أن انضمام كتيبة من الفئات المستبعدة، سيوفر تعبئة عشر كتائب احتياط سنويًا.

استعرضت صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية، فشل جيش الاحتلال فى القضاء على حركة حماس، رغم تمكنه من إضعافها. وارتأى مسئولون أمريكيون أن الجيش الإسرائيلى لن يحقق المزيد من المكاسب فى قطاع غزة، وأن الحل الوحيد لاستعادة 115 أسيرًا إسرائيليًا أحياءً أو أمواتًا، يكمن فى إبرام صفقة. تماهيًا مع هذا الطرح الأمريكى، سرب مسئولون عسكريون إسرائيليون أن الحرب على غزة قد انتهت. حيث تم القضاء على معظم الوحدات القتالية التابعة لحماس، هزيمة لواء رفح، وردم معظم الأنفاق بمحور فيلادلفيا. ومن ثم، يوقن المستوى العسكرى أن الوقت قد حان لإبرام اتفاق لتبادل الأسرى.

تزامنًا مع سقوط استراتيجية الردع الإسرائيلية، فى مواجهة فصائل المقاومة، التى تتهافت على إمطار دولة الاحتلال بالصواريخ والمسيرات، من اليمن، لبنان، غزة، سوريا والعراق؛ يتواصل النزيف المروع للاقتصاد الإسرائيلى. ورغم فارق القوة لصالح جيش الاحتلال، تأبى المقاومة إلا الصمود. فلما كانت فصائلها فواعل دون الدول والجيوش النظامية، تختلف حساباتها عن تقديرات تلك الأخيرة. فبينما تستخدم المقاومة تكتيكات غير تقليدية كالأنفاق، وتتمتع بصلابة تخولها تحمل الخسائر وامتصاص الضربات، تجدها لا تتيح لفارق القوة فرصة للتأثير فى قراراتها. الأمر الذى يحرم دولة الاحتلال من استثمار تفوقها العسكرى والتكنولوجى الكاسح، لتحقيق مآرب سياستها الخارجية، أو دحر المقاومة، وكسر إرادتها.

فعلى وقع العدوان الإسرائيلى الغاشم، طورت المقاومة من تكتيكاتها، فعادت إلى العمليات الاستشهادية، وسط التجمعات السكانية المكتظة داخل العمق الإسرائيلى. ومؤخرًا، تبنت حركتا حماس والجهاد محاولة تفجير انتحارى بتل أبيب، فى إعلان واضح عن استئناف العمليات، التى دأبت حماس على تنفيذها خلال الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000. ولعل الحركة قد شعرت بتواضع جدوى خيار المواجهة العسكرية مع الاحتلال، بسبب الخلل الفاحش فى موازين القوى، فقررت العودة إلى الأساليب القديمة، ونقل معاناة غزة إلى قلب إسرائيل، عن طريق تنفيذ عمليات لا تطال المستوطنين والجنود الإسرائيليين، وإنما تستهدف المدنيين أيضًا. ويظهر نجاح منفذ العملية فى بلوغ قلب تل أبيب، امتلاك حماس قدرة على التسلل إلى داخل إسرائيل، إما من خلال اجتياز إجراءات العبور من الضفة، أوعبر تجنيد فلسطينيين من عرب 48، الذين سئموا النأى بأنفسهم عن حرب غزة، بعدما اشتدت وطأة الاستهداف الإسرائيلى لهم فى الضفة والقدس. وأعلنت كتائب القسام وسرايا القدس، عزمها استئناف العمليات الاستشهادية بالداخل المحتل، طالما تواصلت مجازر الاحتلال، مخططات التهجير القسرى للفلسطينيين، وسياسة الاغتيالات. الأمر، الذى أجج مخاوف الأجهزة الأمنية الإسرائيلية من عودة الذعر إلى قلب المدن الكبرى.

مؤخرًا، حذر، تامير هيمان، الرئيس السابق للاستخبارات العسكرية الإسرائيلية «أمان»، ما اعتبره تلاشيًا لمكانة إسرائيل كقوة إقليمية، ودولة قوية عسكريا. بدوره، دعا رئيس الوزراء السابق إيهود باراك، إلى وقف الحرب الفاشلة فى غزة، وانتهاج مسار تفاوضى لإعادة المحتجزين الإسرائيليين. وفى أواسط العام الماضى، طالب معهد أبحاث الأمن القومى، بجامعة تل أبيب، قادة دولة الاحتلال، بضرورة إدراك حدود القوة، والعمل وفق مقتضاها. وناشدهم التنسيق مع واشنطن قبل التورط فى أى تحرك عسكرى، مستقبلًا. غير أن حكومة، نتنياهو، تأبى إلا الإمعان فى استراتيجية «جنون القوة»، متجاهلة ما تستتبعه من عواقب وخيمة. فبدلًا من مراجعة حساباتها، والإصغاء لنصائح حكمائها وحلفائها، أعلنت عزمها مواصلة العدوان على غزة، فوق الأرض وتحتها، مع تكثيف عملياتها على الجبهة الشمالية.

التعليقات