رباعيات عبدالرحيم منصور - أحمد مجاهد - بوابة الشروق
الإثنين 6 يناير 2025 11:41 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

رباعيات عبدالرحيم منصور

نشر فى : الإثنين 26 أكتوبر 2009 - 10:30 ص | آخر تحديث : الإثنين 26 أكتوبر 2009 - 10:31 ص

 كتب شاعر العامية الكبير عبدالرحيم منصور، بالإضافة إلى أغنياته الكثيرة التى نعرفها ديوانا واحدا بعنوان«الرقص ع الحصى» وقد أضيف إليه ثمانية وخمسون رباعية بعنوان«رباعيات الموت والميلاد»، وتم طبعهما فى كتاب واحد يحمل اسم الأعمال الكاملة، صدر فى طبعة واحدة عام 1990.

وقد أهدى عبدالرحيم منصور هذا العمل إلى أمه، وكتب له تصديرا يقول فيه :«أمى بنت الشيخ إسماعيل الخلاوى من دندرة، نجع الرد، بندر قنا، تعلمت على يديها الشعر.. فحينما كنت صغيرا كنت أجلس بجوارها أمام الفرن وهى تخبز أرغفة الخبز على نيران شجر السنط، وأشعر أن الإنشادات التى تقولها أمام النار كأنها نقش الفراعنة على المعابد القديمة، وأن هذه الإنشادات هى التى تطيب الخبز.. وليس شجر السنط».

وهذا التصدير له دلالة فنية كبرى تكشف سر كتابة عبدالرحيم منصور للرباعيات ذات القوافى المتبادلة، حيث تتفق قافية البيت الأول مع قافية البيت الثالث، وقافية البيت الثانى مع قافية البيت الرابع، فيقول مثلا :

بره القفص زقزقة زقزق يا طير م القلب
الدنيا مش ضــيقة لو بس تعــرف تحـــب

فقد اشتهر أهل الصعيد فى مجالسهم ونواديهم بفن الواو رواية وكتابة، وهو درب من الرباعيات له وزن مخصوص، ويتبع نظام القوافى المتبادلة، وأشهر من كتبه ابن عروس، الذى نحفظ كثيرا من رباعياته دون أن نعرف أنه صاحبها، مثل قوله:

لابد من يوم معــــــلوم تتـرد فـــــيه المظــــــــالم
أبيض على كل مظلوم واســــــود على كل ظالم

ولما كان عبدالرحيم منصور صعيديا خالصا رضع التراث مخلوطا باللبن، فكان لابد له حتى تكتمل شخصيته الشعرية ذات الهوية الخاصة، أن يكتب هذا النمط من الرباعيات، وكيف لا وهو يلقب نفسه باسم مدينته:

قالـــولى ليه يا قنـــــاوى خــــطوك على السكة ساكت
أنا قلت كان لى غناوى داقت الحـــــقيقة وشــــاخت

والرباعية السابقة توضح لنا على المستوى الدلالى سبب اختيار منصور لكتابة الرباعيات، فقد اكتشف أن فضاء الأغنية المحدود غير قادر على استيعاب ما فى قلبه من أحزان وما فى عقله من أفكار، فكان لابد من البحث عن قالب آخر يستوعب عناء الرحلة وأهوال الحياة:

طلقونى جوه الدروب وف قلبى نِدْعِةْ حليب
بين الشــروق والغـروب إزاى يا وِلْد تشِـــــــــيب

وإذا كنا قد لاحظنا أن لفظة (وِلْد) قد جاءت باللهجة الصعيدية الخالصة فى النص السابق، فإن هذا كثيرا ما يصادفنا فى رباعياته، حيث يقول مثلا :

لا شــــىْ باقـــى ودايم يا حـــــلم أمى وخَيَّه
القش هـــو اللـى عايم ونا وزمـانى فى خَيَّه

فرباعيات منصور ترتبط بواقعه الصعيدى أشد الارتباط على مستوى اللغة والصور والشخصيات أيضا، فهناك مثلا مجموعة رباعيات كتبها لأمه، منها قوله:

يا مِسْكِـة الطـــيب يا أمـــى يا أم الوَدَع والحكاية
يا كون بيجـــرى فى دمى يا ســــكة بتــدور ورايا

وكذلك مجموعة أخرى كتبها لأبيه، منها قوله:

ماشـى ولابس عــــبايتك والكـــلمة لمَّـــا تقـــــــولها
ارتاح يابويا فى منامتك والدنيا سيب لى حمولها

على أن هذا الارتباط الشديد بالبيئة المحلية، لم يمنع وجود مجموعة من الرباعيات الإنسانية العامة التى تتأمل الحياة فى فلسفة بسيطة تستشف المفارقة الموجعة:

محــــلا ثيابك يا زهــــــــرة ف الصبح زاهى عبيركِ
ييجـى المسـا تبقى ذكرى والدنيا صــــــارت لغـيركِ

وأحيانا تظهر قدرة الشاعر على اكتشاف مفارقات الحياة حتى فى جانبها الإيجابى المفعم بالأمل، لكن فى إطار صراع درامى مرير، حيث يقول :

عـــــرفت عتبات بيوت لكن ما خـــــطيتهــــاش
ودُقْـــتْ يامَــا المـــوت والقـــلب بَرْضَك عــاش

وقد تنبع المفارقة من سياق صرفى يجمع بين اسم الفاعل واسم المفعول،
حيث يقول :

يا نخـــل مالهـا جــدورك فى الأرض مالهاش مخالب
جــيتك لحدك أشـــورك رجـــعت مغــــلوب وغــــالب

فهو مغلوب لأنه قد اكتشف أن النخل الشامخ الذى ظن أن له القدرة على منح الحكمة يكمن فى داخله ضعفه وسر فنائه، فجذوره ليس لها مخالب تتشبث من خلالها بالأرض معادلة الحياة حتى يتحقق للنخل الخلود، لكنه غالب لأنه قد تأكد من أنه لا شىء فى الكون أقوى من الإنسان، وأن عليه أن يستشف الحكمة من داخله نفسه.

وقد أدرك منصور فى النهاية أن المفارقة التى تَعَجَّب من مظاهرها المتعددة، والتى بدت مؤلمة فى صراعها الدرامى، هى الجوهر الرئيسى الذى يضمن استمرارية الحياة، حيث يقول:

لاتنين سوا لاتنين البذرة ويَّا الحـصـــــاد
الفجر أبيض جنين والموت شهادة ميلاد

فالحصاد المعادل للموت هو جمع للبذور التى تؤذن بميلاد جديد عند زراعة الحبوب الوليدة، ولولا هذا الموت المرحلى ما كانت الحياة الواعدة.

فهل هذه هى حكمة الحياة الدفينة التى عانى منصور وتغرب سعيا للوصول إليها:
بأفِرْ مِنْ تَحْت جِلْدِى واهرب وألف وأدوب
الـوِدْ أشـــــرب بيــدى نبع الشــروق والغروب

ربما.. لكننا فى هذا السياق لا نبحث عن الحكمة، بل نبحث عن الصورة الفنية التى قدمت من خلالها، وأظن أنها قدمت بطريقة مرضية، أبرز ما فيها أنها تبرز هوية المبدع، فى زمن ضاعت فيه الهويات وتشابهت الأصوات.

التعليقات