وغاب الرفاق كأن لم يكن .. بهم لك عهد ولم تصحب
نعم، كان أنيس منصور رفيق سنوات طوال من مراحل العمر المختلفة فى العمل وخارج مجالات العمل.
وحين عرفت نبأ مرضه ثم رحيله وكنت خارج القاهرة، لم أملك نفسى من تذكر أيام كانت هى رحيق العمر. كان أنيس يتقدمنى سنّا ببضع سنوات. ولكنى اقتربت منه حين خرج من قيود المناصب الصحفية التى تولاها، وعرفته على طبيعته دون تكلف.. وقد تراكمت لديه خبرات الاقتراب من السلطة والخوض فى أسرارها، وبالأخص فى فترة ولاية الرئيس السادات. التى شكلت مخزونا هائلا من التجارب والحكايات والذكريات.. لم تمتد إلى من بعده لأسباب كثيرة. ولكنها كانت بمثابة ضوء كاشف لفهم الأشخاص والأحداث التى قادت مصر فى حقبة «الجمر والرماد» التى ميزت العقدين الأخيرين.
حتى اللحظات الأخيرة، لم يتوقف أنيس منصور عن الكتابة: كتابة عموده اليومى فى الأهرام وفى الشرق الأوسط.. يعبر من خلالها بحارا وأنهارا من الفكر والرأى وآخر ما توصل إليه العلم فى الفلك والطب والفيزياء. وكان فى كثير من الأحيان يسبق الصحف والفضائيات فى نقل الخبر ونشره وتبسيطه.. تاركا للمتخصصين بعد ذلك أن يقولوا ويعيدوا فيه ما يشاءون!!
فهو كان يرى أن العمود الصحفى لا ينبغى أن يقتصر على لون واحد أو موضوع واحد أو اهتمام واحد أو رأى واحد.. بل هو ابن الساعة واللحظة. أشبه بحديقة مترعة بالثمار من كل نوع، يطوف بها كل من عنّ له أن يطوف ليقطف ما شاء من الثمار. وفى مقابل ذلك كانت قراءاته واهتماماته واسعة متعددة. درس الفلسفة ولكنه عاشها ومارسها واقترن بها. فكانت بالنسبة له رفيقا مخلصا. يهرب منها ويعود إليها. وربما كانت رحلته إلى آسيا ولقاؤه بالدلاى لاما، واتصاله بالروحانية الآسيوية هى التى أغرته فى سنوات عمره الأخيرة بالامتناع عن أكل اللحوم والاكتفاء بالأسماك وما شابهها من مأكولات بحرية.
عرفت أنيس منصور فى بداية مشوارى الصحفى عندما كان أحد النجوم اللامعة فى أخبار اليوم، وكنت ما أزال فى أولى درجات السلم الصحفى.. لم يكن أنيس منذ البداية مولعا بالسياسة أو الكتابة عنها. ولكنه كان يكتب فى كل شىء تقريبا بعيدا عن السياسة. ويرى أن اهتمام الناس بالسياسة يفسد أذواقهم ويميت الإحساس لديهم بالجمال. ولذلك جاءت محاولات أنيس المتتالية عن طريق مجلة «الجيل» التى أنشأها لتضع المرأة فى قلب الحدث وقلب الحياة. وتعيد صياغة العقل المصرى بما يتفق مع قيم التحرر والجمال. وكان أنيس منصور فى هذه الحقبة يسبح بعيدا عن الشاطئ، فى وقت فرضت فيه ثورة يوليو على الناس التزاما لم يحتمله كثير من الكتاب والمفكرين.. وانعكست حالة القلق على حياته، فدخلت إليها اهتمامات أخرى بالفن والغناء والمسرح. ويرجع الفضل فى هذه الحقبة إلى أستاذه كامل الشناوى الذى احتضن كثيرا من المواهب، وأسس ما يمكن أن نطلق عليه «فن الصحافة الغنائية».. واختفى العقاد، ثم طه حسين ثم الشناوى ليجد أنيس نفسه وحيدا فى معترك الصحافة!
ولكن أنيس وجد نفسه أخيرا، بعد موت عبدالناصر وتولى السادات مسئولية الحكم. ولأول مرة يصبح مسئولا عن رياسة تحرير مطبوعة سياسية هى مجلة أكتوبر، وجها لوجه مع السياسة وفنونها ومتاعبها.
وكان عليه أن يغترف من معين علاقاته الوثيقة والمباشرة مع الرئيس السادات.. فى ظروف تاريخية بالغة الصعوبة بعد الحرب. لكى يقدم صياغة صحفية محترفة لأسرار وقصص إخبارية.. إما على لسان الرئيس السادات أو على لسان أنيس منصور. وفى كثير من الأحيان لم يكن القارئ يعرف أين ينتهى السادات وأين يبدأ أنيس منصور. وفى اعتقادى أن هذه المقالات تمثل أفضل كتابات أنيس السياسية وأكثرها دهاء وأحفلها بالأسرار.
حب أنيس للشعر وترديده لكثير من عيون الشعر العربى التى حفظها صغيرا وأنشدها كبيرا، تكشف عن معدن أدبى مصقول، وعن إجادة تامة للغة العربية، فضلا عن لغات أخرى أتقنها ولم يستخدمها أو العكس!
كان أنيس منصور عالما قائما بذاته. أحب وكره. وحضر وغاب، وصنع له أصدقاء كثيرين وأعداء قليلين.. ولكنه يبقى متفردا بما أنجزه، وبما خلفه من إنتاج فكرى وأدبى يخلده على مر العصور!! رحمه الله!