تلاميذ طه حسين الذين خذلوه - صبرى حافظ - بوابة الشروق
الثلاثاء 25 فبراير 2025 10:45 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

تلاميذ طه حسين الذين خذلوه

نشر فى : الجمعة 26 نوفمبر 2010 - 11:08 ص | آخر تحديث : الجمعة 26 نوفمبر 2010 - 11:08 ص

 لم أكن أتوقع وأنا أكتب هذه المقالات عن معنى المثقف، وكيف وصلنا إلى المثقف التابع، المثقف الزائف، المثقف الذى حقق ما حقق بإهدار رأسماله الرمزى، الذى سبق وأن حققه قبل احتوائه، وأهم من هذا كله إهدار قيم الثقافة والعقل والحق والحرية. فإهدار المثقف لرأسماله الرمزى ليس عملا فرديا فحسب، يعود على صاحبه بأوخم العواقب الثقافية، وبشىء من الصيت السيئ والمال.

ولكنه ينطوى للأسف الشديد على إهدار ضمنى لقيمة الثقافة وقيمة المثقف معا، فلم يعد لأى منهما الدور والهالة الكبيرة التى كانت لهما من قبل. بسبب تنامى المثقف التابع ودفاعه عن خياراته المأفونة، بل وتشويهه المستمر لقيم الثقافة والحق والعدل والحرية. أقول لم أكن اتوقع وأنا أكتب هذه المقالات أن تبرهن الأحداث بهذا الشكل البشع على ما كتبته. فقد أشرت فيها أكثر من مرة إلى تلك القضية التى أثارها الصديق الشاعر المرموق عبدالمنعم رمضان حول مدى سخف الزعم بأن تلاميذ طه حسين قد تجاوزوه.

لأن فى هذا الزعم تغافل عن حالة التردى والهوان التى وصلنا إليها فى زمن الانهيارات الكئيب الذى نعيشه، وسوء فهم لطه حسين ودوره وإنجازه. والواقع أننى لم أقرأ عن هذه القضية إلا من خلال تحليل عبدالمنعم رمضان وتهكمه العميق واللاذع معا على من طرحوها. وها هى الأحداث تكشف صدق رؤاه، وأن تلاميذ طه حسين لم يتجاوزوه، وإنما خذلوه بشكل مريع فاضح، كشفت عنه أحداث حكم المحكمة الإدارية العليا بإلغاء الحرس الجامعى، وضرورة سحبه من الجامعات المصرية. واعتراض أكثر من رئيس جامعة ممن يدينون بمقاعدهم لرضا الأمن عنهم، على هذا الحكم.

ثم وصل الأمر إلى حد المسخرة، فنحن فى زمن المساخر والتجليات الشوهاء، و«السيميولاكرا» والمثقف الفالصو كما بينت فى الأسبوع الماضى. فقد تابعت بقدر كبير من الذهول تصريحات «الدكتور» ماجد الديب رئيس جامعة عين شمس التى تدافع لا عن الحرس الجامعى فحسب، وترفض تطبيق حكم المحكمة الإدارية العليا بجامعته، كما فعل كثيرون غيره، وإنما تدافع عن بلطجية السنج والجنازير ومن هاجموا أساتذة جماعة «9 مارس» لأنهم تجرأوا على توزيع حيثيات حكم المحكمة الإدارية العليا فى جامعته، بل وقدم شكوى «أمنية» ضدهم إلى جامعتهم؛ أى جامعة القاهرة، جامعة طه حسين. وليس حال جامعة القاهرة تحت رئاسة «الدكتور»، بين قوسين أيضا، حسام كامل بخير من حال جامعة عين شمس.

فقد كان «الدكتور» بين قوسين حسام كامل من بين المثقفين الذين صحبهم وزير الثقافة لزيارة الرئيس مبارك، والذين ظهروا مع غيرهم من «كبار» المثقفين فى الصورة الرسمية التى وزعت على الصحف بعد الزيارة. إذن فتعريف الوزير «الفنان» بين قوسين أيضا للمثقف، المثقف المدجن التابع، ينطبق عليه.

مع أن كل علاقته بالثقافة هى أنه ترأس جلسة منح درجة الدكتوراة الفخرية للسيدة سوزان مبارك؟ هل يذكر أى من الذين يجلسون على كرسى المثقف الكبير حقا أحمد لطفى السيد ماذا فعل هذا الرجل فى ظروف مشابهة؟ هل يذكر أى منهم ماذا فعل طه حسين الذين يتخرصون عليه بأنهم تجاوزوه فى حالة مشابهة؟ دعنى أذكر الذين يعانون من فقدان الذاكرة التاريخية، فأصبحوا مسخا شوهاء، بالذى فعله طه حسين فى الثلاثينيات، حينما قدم استقالته من عمادة كلية الآداب حينما طلب منه منح الدكتوراه الفخرية لعدد من أعيان حزب الشعب الحاكم وقتها، حزب إسماعيل صدقى «باشا» الشهير.

وكان حزب الشعب، كما هى الحال مع الحزب الوطنى، يعانى من أزمة مصداقية حادة. وتصور زعيمه أن منح بعض أعضائه درجة الدكتوراة الفخرية قد يدعم موقفهم. فما كان من المثقف الكبير أحمد لطفى السيد، رئيس جامعة القاهرة، إلا أن وقف إلى جوار الدكتور العميد، ورفض أن تتدخل الشرطة ضد مظاهرات الطلبة المؤيدة لموقف طه حسين. ولم تنفض تلك المظاهرات حتى عاد طه حسين لموقعه، وباءت محاولات إسماعيل صدقى، رئيس الوزراء وقتها، بالفشل، بل سرعان ما سقطت وزارته وحل مكانه توفيق نسيم «باشا».

فإين هذا كله من تصرفات «الدكتور» ماجد الديب، وشكواه لزميله «الدكتور» حسام كامل رئيس جامعة القاهرة بالتعيين مثله، بعد رضا السلطات الأمنية، ضد «جماعة ٩ مارس لاستقلال الجامعات» والذى دافع فيه عن البلطجية الذين هاجموهم، برغم أنهم ضبطوا متلبسين بالصوت والصورة وهم يستعملون السنج والجنازير. وبدلا من أن ينشغل كمثقف جدير برئاسة الجامعة التى أنشأها طه حسين، بالتحرى عن هوية هؤلاء البلطجية، ومن وظفهم؟ وكيف دخلوا الجامعة وانتهكوا حرمها بأسلحتهم هذه؟ وبدلا حتى من مساءلة الحرس الجامعى، الذى يدافع عن وجوده، عن تقاعسه عن منع الأذى الذى أنصب على زملائه من الأساتذة والطلاب.

نجد أنه ــ لا فض فوه ــ يهاجم زملاءه من أساتذة الجامعة ويصفهم بأنهم قلة مندسة تفرض فكرا منحرفا على الطلاب، ثم يقرر كأحد كتبة التقارير الأمنية، أن من ضربوهم بالسنج والجنازير شباب غيورون على هيبة جامعتهم أرادوا حمايتها من هجوم خارجى لأشخاص «لا صلة لهم بالجامعة». وبذلك انحاز رئيس الجامعة مسبقا لعدد من البلطجية، وكشف بحق عن ولاءاته الحقيقية. وهى ولاءات لا علاقة لها بقيم الثقافة أو العقل أو الجامعة أو الحرية.

بل أين ما فعله طه حسين وأحمد لطفى السيد فى ثلاثينيات القرن الماضى من تصريحات «الدكتور»، بين قوسين أيضا، هانى هلال وزير التعليم العالى والبحث العلمى العنيفة التى هاجم فيها تصرفات أساتذة جماعة «9 مارس لاستقلال الجامعات» والتى تسعى جاهدة للحفاظ على فتات ما بقى مما بناه طه حسين. تلك التصريحات التى لم أصدق نفسى، وأنا أستاذ جامعى يعرف ما هى أصول الخطاب الجامعى، وأنا أسمعها فى حواره التليفزيونى فى برنامج (مصر النهاردة)، وهو برنامج كشف عبر مفارقاته الصارخة بين تصريحات الوزير وهجومه الشرس على زملائه من أساتذة الجامعة، وبين صور ما جرى التى نشرتها الفضائيات، عن مدى الانهيار التى تعيشه بحق «مصر النهاردة».

كيف يمكن لمسئول عن التعليم العالى فى مصر أن يستخف بالعقل وبالمنطق العلمى إلى هذا الحد، وهو يجعل الجناة ضحايا والضحايا جناة بهذا الشكل المفضوح؟ وكيف يمكن له جهارا نهارا أن يزرى بكل قيم الحق والعدل والحرية من أجل مداهنة الأمن والحفاظ على كرسى الوزارة؟ والواقع أننى حينما سمعت كلمات هذا الرجل، الذى يعتبر المسئول الأول عن التعليم العالى والبحث العلمى فى مصر، وخطابه المتدنى لغة وتفكيرا وأسلوبا، أدركت أنه لا أمل على الإطلاق فى أن تنهض الجامعات عندنا من نكستها الفاضحة، ما دام الذى يتولى وزارة التعليم العالى والبحث العلمى شخص بهذا المستوى من التفكير، وما دام ولاؤه ليس للعلم، ولا لتطوير الجامعات، وإنما للأجهزة الأمنية التى رشحته للتعيين فى منصبه. فلابد أن طه حسين يتملل فى قبره الآن وهو يرى ما يحدث للجامعة التى أسس بالجهد والدم والعرق استقلالها. ولابد أنه ما كان ليصدق مثلى أذنيه وهو يستمع لحديث وزير التعليم العالى.

ولا أريد أن أسترسل فى الحديث عن تلك الفضيحة الشائنة، فقد تناولتها الصحف بالكثير من التفصيل، ولكننى أود أن أعود لموضوعى الأساسى، كى أؤكد عبر استشهادى بها، مدى ما أوصلنا إليه المثقف التابع من دمار وهوان. حيث اصبح من العسير أن نصف أيا من رؤساء الجامعات المصرية، بعدما فضحهم حكم محكمة القضاء الإدارى بشأن الحرس الجامعى، بكلمة «مثقف»، بالرغم من إدراج وزير الثقافه لأحدهم فى وفد المثقفين. فكلما اتسعت الفجوة بين المؤسسة بخطاباتها المتدنية ومثقفيها، وبين «بنية المشاعر الوطنية والشعبية» كلما انفضح المثقف التابع، وتضاعف تأثيره السلبى على الثقافة، بل وعلى الوطن برمته.

ذلك لأن المثقف التابع لا يضر نفسه فحسب، ولا يبدد رأسماله الرمزى وحده، وإنما يضر الثقافة برمتها، ويبدد رأسمالها الرمزى الذى بنته أجيال متتابعة من خيرة المثقفين بالعرق والدم. إن هذا المثقف وهو يهدر قيم الحق والعدل والخير والجمال والحرية وكل قيم الثقافة المضيئة يتصور أنه يشترى بذلك أمنه واستقراره، بالتضحية باستقلاله وحريته. ولكنى أحب أن أذكر هؤلاء بمقولة جيفرسون الشهيرة «إن من يضحى بالحرية من أجل الأمن، لا يستحق أيا منهما». فلا أمن فى غياب الاستقلال أو الحرية.

صبرى حافظ ناقد أدبي مصري مرموق، وأستاذ الأدب الحديث والمقارن بجامعة لندن. درّس في كبريات الجامعات الغربية. وله العديد من الكتب والأبحاث بالعربية والانجليزية، فاز أحدث كتبه بالانجليزية (السعي لصياغة الهويات) بجائزة (اختيار) الأمريكية لأهم الدراسات الأكاديمية لعام 2009.
التعليقات