لم تكن أى مدينةٍ يوما عند نشأتها اختيارا معيشيا عشوائيا أو موطنا لاقى هوىً فى نفس أحدهم لسكناه فنادته الإقامة فيه، بل كانت نشأة المدينة بقرار مرتبط بالهدف من إنشائها، والتوجه للعيش فيها بقرار مرتبط برغبة ومصالح مستوطنها، هذا لم يمنع تحول بعض القرى إلى مدن بعدما تغير أسلوب الحياة الريفى المرتبط بمعطيات الطبيعة إلى أسلوب حياة حضرى مرتبط بتحول نشاطات الإنسان وخصائصه، تلك القرى التى كانت يقر فيها الإنسان أى يجتمع ويستقر فيها لتوفيرها متطلبات معيشته التى طالما كانت مرتبطة بسد احتياجاته الأولية من مشرب ومأكل ونسج ملبسه ووفرة مصايده وتأمين مسكنه، إلى أن تطورت احتياجاته واتسعت نشاطاته وتنوعت وصارت أكثر تخصصا فظهر فيها التاجر والمحاسب ورجل الدين وفئات أخرى لم تعد تتعامل مع معطيات الطبيعة بشكل مباشر، وفاقت تطلعاته حدود قريته طلبا لتأمين مجال حركته وطرق تجارته ومصادر ثرواته بل وأقيمت الدول وصار لكل منها نطاق نفوذ يستوجب تنظيمه وحكمه والدفاع عنه.
***
أنشئت «منف» بقرار لتكن عاصمة توحيد المملكتين فى الشمال والجنوب، اختير موقعها وتحددت عناصرها وتخططت طرقها ومبانيها، وتعددت قرارات إنشاء المدن على مر التاريخ مرورا بإنشاء الإسكندرية وتوالى إنشاء غيرها حتى الفسطاط ثم القاهرة إلى عصرنا الحالى الذى تنوعت فيه الحواضر فى هيكلها الوظيفى وأنسجة طرقها طبقا للمستهدف منها ومدركات علاقاتها فى محيطها البيئى، فصارت هناك الضواحى على مشارف المدن كما كانت ضاحية حلوان فى جنوب القاهرة وضاحية مصر الجديدة فى شرقها، وفى بعض الدول تعد الضواحى ذات طبيعة مختلطة بين الحضرى فى المعيشة والريفى فى المحيط البيئى، وهناك التجمعات الجديدة أو المدن التابعة والتى تدور فى فلك المدينة الأم وتمدها بخدمة أو صناعة أو تخفف عنها كثافة سكنية مثل التجمعات العشرة حول القاهرة الكبرى والتى تبدأ بالتجمع الأول مرورا بالخامس وغيره حتى مدينة الشيخ زايد كانت أحد هذه التجمعات العشرة، ثم المدن الجديدة مثل العاشر من رمضان والسادات والسادس من أكتوبر وغيرهم من أجيال المدن الجديدة إلى المدن الجارى إقامتها حاليا.
لكل من هذه المدن أهداف للنشأة ومستهدفون بالإقامة فيها، تتلاقى لديهم المصالح المشتركة بين الهدف من الإنشاء والهدف من المعيشة لتحقق لكل من المنشئ لها والساكن فيها أهدافه وطموحاته، فكانت المدينة دوما معبرا عما وصلت إليه متطلبات الإنسان وتطلعاته، بداية من سعى الحاكم لإنشاء مدينة تكن حاضرة عصره، يحشد فيها ما ينجلى لزائرها من تقدم تلك الأمة وعظم حاضرها وآمال مستقبلها، إلى سعى المواطن لسُكنى المدينة التى تفى بمتطلباته الإنسانية شاملة متكاملة له ولأسرته، وهنا يبرز السؤال الذى يطلب إجابة تحدد نمط العيش الإنسانى فيما بين المدينة المتحفية والمدينة النابضة بحياة ساكنيها، نعم «المدينة النابضة بالحياة» هو تعبير ليس بلاغيا بل علمى يتخذ منه بعض الهيئات توجه لتصنيف المدن من حيث نابضيتها بالحياة، ويتوقف ذلك على مدى توفيرها للمتطلبات الإنسانية لساكنيها، والذين وطّنوا حياتهم وعقدوا آمالهم على استدامة العيش فيها، وكما وضعت منظمة الموئل التابعة للأمم المتحدة منذ حوالى خمس عشرة سنة مضت سمات للمجاورة السكنية المستدامة تضمنت يُسر السكن ومدى قابلية المشى والشوارع النابضة بالحياة.
***
لذلك دأب مخططو المدن على تحقيق ثلاثة مجالات ضمن مخططاتهم العمرانية، مجال الإمكانات والطموح المحليين وتحقيق المعايير الإنسانية ومجال الأهداف الاستراتيجية والتى عادة تشكل الدافع لتخطيط المدينة ومجال الأسس والنظريات والدراسات المتخصصة، هذا المثلث الذى يجب أن يظل متساوى الأضلاع لا يجور منه ضلع على آخر، ويظل الحكم على نجاح المخطط بعد التأكد من جودة تطبيق المجال المتخصص مرهونا بمدى تحقيق الأهداف الاستراتيجية فى إطار تحقيق الأهداف المحلية والإنسانية، أى بأولوية دوما لعدم الجور على الأهداف المحلية والإنسانية، وتظل القاعدة الأساسية فى تخطيط المدن أننا نخطط من أجل تحقيق التنمية ونُنمّى من أجل الإنسان، ففى النهاية نحن نخطط وصوب أعيننا الإنسان بمتطلباته بداية من احتياجاته الجسدية حتى تحقيق احتياجاته الفكرية والنفسية فى مكان سكنه ونطاقه العمرانى.
لقد فات من مخططى مدن عصر الثورة الصناعية الكثير من أسس ومعايير احترام المتطلبات الإنسانية فى مدينته، كما لم تعد بعض المدن الأقدم وافية فى خصائصها بمتطلبات المعيشة الإنسانية حاليا، وتتبعا لمحاولات عدة منذ أواخر القرن الماضى لإصلاح المدن القائمة ووضع أسس ومعايير لتخطيط المدن الجديدة تتماشى مع الهدف الإنسانى من حياة الناس داخل المدينة، فالمدينة كائن حى شوارعها عروق ودماؤها بشر، فإن نزفت مدينة ناسها ماتت وإن عزف ناس عن الولوج فى مدينة جفت ومرضت، وكانت نداءات أممية ومحلية تدعم عوامل استدامة المدن وتطبيقات العمارة الخضراء لإعطاء المدن قدرا ومدىً أطول ومتسعا للتواصل مع بيئتها بما فيها من بيئة طبيعية واجتماعية وحتى البيئة المصنوعة سواء كانت تراثية أو تكنولوجية وتأثيراتها على أهداف واستدامة المدن إلا أن بعض تلك المخرجات صار مفرغا من معناه الإنسانى لصالح تحقيق معادلات بيئية وكأننا نعيش من أجل البيئة ولسنا نستخدم البيئة برشادة من أجل الإنسان.
***
هذا ما أعاد كثيرا من فكر التنمية والتخطيط العمرانيين إلى المعنى الأصيل وراء التنمية العمرانية وهو تحقيق الاستدامة الإنسانية، نعم الإنسان هو الأصل الذى يحتاج أن تستديم إنسانيته وأن نسعى للحفاظ عليها وتعميق دورها ثم لا خوف على بيئة يوضع لها ضوابط التعامل معها، ليست هذه أمنيات أو كلاما إنشائيا بل كان المؤتمر الدولى الأول لأنسنة المدن الذى أقيم عام 2017 بالمدينة المنورة ــ نعم «أنسنة المدن» ــ هو جرس البدء لعهد عمرانى جديد نعيد فيه النظر فى مخططات مدننا الحديثة وإعادة تخطيط مدننا التراثية على أسس تعلى من قيمة الإنسان والقيم الإنسانية وتؤسس لعلاقة حياة بين الإنسان والمدينة.