من مائعات الأفكار الاقتصادية، والتى سببت جدلا واسعا فى معظم البلدان النامية، ما يتناوله العديد من الاقتصاديين حول حدود دور الدولة فى الاقتصاد. فعلى طرفى نقيض، يجادل بعضهم بأن الدولة يجب أن تقف على حدود السوق، وأن يقتصر دورها على حمايته من العوائق التى قد تمنع توازنه أو توسعه، وأن تترك للقطاع الخاص القيادة الكاملة لدفة النشاط الاقتصادى؛ ويعتقد آخرون بأن الدولة يجب أن تبسط مظلتها على مجريات الأمور الاقتصادية، وأن تتدخل لخدمة أهداف اقتصادية واجتماعية محددة، حتى لو تمخض عن ذلك مزاحمتها للقطاع الخاص فى السوق.
ومن البديهى أن يختلف الدور الذى تلعبه الدولة فى الاقتصاد باختلاف الزمان والمكان؛ ومن البديهى كذلك أن تجد الأفكار الاقتصادية التى تُمحص هذا الدور، تتوافق مع السياق التنموى الذى تمر به الدولة. أما أن تجد أفكارا تدعو لتحجيم دور الدولة فى الاقتصاد، بينما السياق التنموى يستدعى توسعه، فأنت إذن أمام أفكار من النوعية المُضللة أو المُنفصلة عن الواقع. تشهد على ذلك وقائع التاريخ الاقتصادى الحديث. ففى معاقل النظام الرأسمالى العالمى فى أوروبا وأمريكا واليابان، وعندما اقتضت الحاجة فى أعقاب أزمات الكساد العميقة، تمدد دور الدولة كثيرا، حتى وصل لبعض الأنشطة الإنتاجية التى كانت فيما مضى حصرية على القطاع الخاص. وانتصرت الأفكار التى تدعو الدولة للتدخل والتوسع فى النشاط الاقتصادى.
على أن وقائع التاريخ الحديث لا تشهد وحدها على هذه الحقيقة، إذ بدت نفس الحقيقة أمامى وأنا أتابع فصول الصراع الدائر حاليا بين معسكرين عظيمين فى عالمنا الراهن؛ المعسكر الأمريكى وحلفائه، والمعسكر الصينى وطموحاته. فلقد ألقت الحكومة الأمريكية بكامل ثقلها فى أتون الصراع التكنولوجى مع شركة هواوى الصينية؛ وبذلت ــ ومازالت تبذل ــ محاولات مستميتة لكبح جماح هذا المارد الصينى، حتى لا يتفوق على الشركات الأمريكية العاملة فى نفس المجال (على رأس الشركات المتضررة، شركة «كوالكم» Qualcomm) ولم تعر أى اهتمام للأفكار الرومانسية التى تطالب الدولة بالامتناع عن التدخل فى النشاط الاقتصادى، تلك الأفكار التى لا يعتقد فى صحتها إلا نفر من مفكرى وتكنوقراط عالمنا النامى.
ولما كان تصارع الحكومة الأمريكية نيابة عن الشركات الأمريكية الخاصة يهدم كل الأفكار التى تدعو للالتزام بالأدوار التقليدية للدولة، كحفظ الأمن الداخلى والخارجى، وإرساء قواعد العدالة، وإنتاج جزء مهم من الخدمات الاجتماعية، وحماية المنافسة.. إلخ؛ فإن ذلك يثبت لنا، وبما لا يدع مجالا للريبة أو الجدل، أن وظائف الدولة يجب أن تدور مع المصلحة الوطنية، حتى لو استدعى ذلك الدخول فى حروب تجارية لفرض هذه المصلحة باليد الغليظة للدولة.
***
هذه النتيجة المستخلصة من «صراع الدولة» الأمريكية مع شركة هواوى الصينية، تدعونا للتساؤل عن الحدود التنموية لدور الدولة ووظائفها فى حالة اقتصاد نامى كالاقتصاد المصرى، وتقتضى من المهتمين بالشؤون الاقتصادية إعادة التفكير فيما تضعه برامج «التثبيت الاقتصادى» من أغلال على أيادى الدولة فى مصر. فمن منظور التنمية الاقتصادية، ليس من المقبول أن يُفتقد دور الدولة حيث ينبغى أن يكون حاضرا، أو أن يُوجد حيث يجب أن يكون غائبا.
وأيا ما كان الأمر، فنظرا لأن برنامج التثبيت الاقتصادى، والذى يطبق حاليا فى مصر، يستهدف إدخال مزيد من التعديلات الجوهرية على دور الدولة فى الاقتصاد، وبما أراه يُقيد من دورها فى تعزيز مؤشرات التنمية المستقلة؛ فإن واجب الوقت هو تذكير صانع السياسة الاقتصادية بأن السياق التنموى الراهن للاقتصاد المصرى يفرض على الدولة أن تتجاوز فى أدوارها ووظائفها الحدود التقليدية، لا أن تنكمش وتتراجع لما دون هذه الحدود. أى أن رؤيتى التنموية هى أن تتوسع الدولة فى وظائفها وأدوارها المنوط بها، وأن تجاهد فى تحقيق كل الأهداف الاستراتيجية التالية:
ــ تعبئة المدخرات الوطنية، وتهيئة الظروف المواتية لمنع تسرب هذه المدخرات بعيدا عن الجهاز المصرفى. فالدولة فى تجربة دول «النمور الآسيوية» كانت حاضرة بقوة فى ملعب الادخار المحلى، ولم تترك هذا الملعب حتى ارتقى الجهد الادخارى لمعدل 40% فى المتوسط. ولكى يمكن تطويع دور الدولة فى الاقتصاد المصرى لتحقيق هذا الهدف العزيز، فإن التطور فى مؤشرات الجهد الادخارى يجب أن يكون المعيار الرئيسى لتقييم أداء مجلس إدارة البنك المركزى ومجلس إدارة هيئة الرقابة المالية. إذ عندما يصبح ترقية الجهد الادخارى هو معيار التقييم، سيجتهد هذان المجلسان فى تطوير الأدوات الرقابية على وحدات الجهاز المصرفى وجهاز التأمين، لكى تعبئ مدخرات المصريين، وبما يعزز الشمول المالى الحقيقى. ولكى يتمتع هذا التحليل بالإنصاف والموضوعية، فإن ترقية الجهد الادخارى المصرى ليس مسئولية البنك المركزى وهيئة الرقابة المالية وحدهما؛ فهناك جهات عديدة، اقتصادية وغير اقتصادية، تتحمل جزء مهم من هذه المسئولية الكبيرة. ومع ذلك، تظل هاتين الجهتين هما حجر الزاوية فى الدور الذى يقع على الدولة فى تعبئة مدخرات المصريين.
ــ والهدف الثانى الذى ينبغى إعادة صياغة أدوار الدولة لتحقيقه، هو تشجيع الاستثمارات المحلية وتحفيزها للولوج فى القطاع الزراعى والصناعى تحديدا. وفى سبيل ذلك، يمكن للدولة أن تطور سياسات الاستثمار بما يجعل هذه السياسات شريكة للمؤسسات المالية الوسيطة فى تعبئة المدخرات المحلية، وفى توجيه هذه المدخرات مباشرة للاستثمار الإنتاجى. كأن تنشئ الدولة مثلا جهازا مستقلا لتلقى اكتتابات صغار ومتوسطى المدخرين، ثم تستخدم هذه الاكتتابات فى تأسيس مشروعات إنتاجية تُختار بعناية تنموية فائقة. وعند اضطلاع أجهزة الدولة بهذا الدور، ستكون كالحاضنة التى تأخذ، مؤقتا، بيد صغار المدخرين والمستثمرين، كى يستطيعوا السير بمفردهم على الطريق الصحيح للاستثمار التنموى.
ــ ولما كانت التنمية المستقلة تعنى، ضمن ما تعنى، تطور نصيب الصناعات المصرية فى سلاسل القيمة العالمية، فإنه يقع على عاتق أجهزة الدولة استهداف ترقية نسبة المكون المحلى فى الصناعة الوطنية، والتحول عن صناعات التجميع صوب صناعة التحويل عالى القيم المضافة. فلا يصح إذن أن تترك هذه المهمة الجسيمة لمبادرات القطاع الخاص، لأنه لا يتخذ قراراته إلا بهدف زيادة العائد على ما يستثمره من أموال. ومن المستقر عليه أن ترقية نسبة المكون المحلى تتطلب زيادة التكاليف الاستثمارية فى مراحل التصنيع الأولى، وهو ما يجعل المصنع المحلى مُحجما عن الاهتمام بهذه الترقية، ومُكتفيا باستيراد أكبر قدر من مدخلات الإنتاج من الخارج. ولذلك تحديدا، فالدولة المصرية مُطالبة بأن تتدخل بالأدوات المباشرة (الذراع الاستثمارية والإنتاجية فى وحدات القطاع العام) وغير المباشرة (سياسات وبرامج دعم الصناعة) لعلاج هذه الإشكالية التنموية.
ــ وبهدف تحقيق التوازن الاقتصادى الخارجى، يقع على الدولة عبء تشجيع الصادرات، مثلما يقع عليها عبء الوقوف أمام تغول أنشطة الاستيراد، وخصوصا الترفى منها. صحيح أن الدولة لديها جهاز متخصص لتشجيع التصدير، لكنه جهاز تنقصه الكفاءة والفاعلية فيما يمتلكه من أدوات. إننى إذ أطالب الدولة بتشجيع الصادرات، فإننى أعنى بذلك أن تصبح جميع الأجهزة المرتبطة بالتصدير فى حالة استنفار وتكامل دائمين، حتى يصل الاقتصاد المصرى لأقصى معدل ممكن لمعامل «الصادرات إلى الناتج»، وحتى تتحول صادرات المواد الخام الرخيصة إلى صادرات مصنعة وشبه مصنعة. وبالتالى، سيكون دور الدولة فى تشجيع الصادرات كفئا وفعالا، إذا لم نعد نرى مثلا رمال الصحراء تُصدر فى شكلها الخام، أو ننظر للغاز الطبيعى وهو يُصدر فى شكله السائل، أو نشاهد باقى المعادن المصرية الثمينة وهى تتراص على الموانئ المصرية ليتم تصديرها بشكلها الخام.
ــ وتأسيا بالتجربة الصينية المُلهمة، فمن الواجب على الدولة أن تطور دورها فى الاقتصاد المصرى، لتعمل على ترقية التكنولوجيا الوطنية فى الأنشطة الاقتصادية المختلفة، وألا تترك أيضا هذه المهمة لجهود القطاع الخاص الناشئ. وبطبيعة الحال، فإن الدولة الصينية لم تصل للمستوى الذى أصبحت معه تمتلك شركة رائدة كهواوى، إلا بعدما خاضت مراحل تدريجية ومتتابعة من نقل وتوطين ومحاكاة التكنولوجيا العالمية حتى وصلت لوضعها الراهن، والذى بات يقض مضاجع النظام الرأسمالى العالمى. ومن ثم، فالسعى الحثيث وراء توطين ومحاكاة التكنولوجيا، يتعين أن يكون من الأدوار الرئيسية للدولة المصرية، حتى تستقل، بالتدريج، تجربة الصناعة المصرية، وحتى تنخفض مخاطر الاعتماد المفرط على استيراد وسائل الإنتاج وقطع الغيار من الخارج.
ــ ويُعد تعزيز مؤشرات العدالة الاجتماعية من الأدوار المحورية للدولة التنموية. ولذلك، فالدولة فى الاقتصاد المصرى يجب ألا تألو جهدا للدفاع عن مقومات العدالة الاجتماعية، ما وجدت لذلك سبيلا. صحيح أن الدولة قد أضافت لبرامج الدعم الحكومى البرنامج الجيد «تكافل وكرامة» منذ العام 2015، بهدف التخفيف من حدة الآثار السلبية لبرنامج التثبيت الاقتصادى على الطبقات متناهية الفقر؛ إلا أن العدالة الاجتماعية الرشيدة لا تعمل على رفع الطبقات الفقيرة فوق خطوط الفقر فقط؛ بل هى تسعى للحفاظ على مقدرات الطبقة الوسطى من التآكل، كما تعمد، فى ذات الوقت، ومن خلال سلاح الضرائب المتصاعدة على الثروات والدخول، إلى النزول بالطبقات الغنية تحت سقوف الثراء والاكتناز الفاحش، حتى تتقارب الطبقات الاجتماعية فيما بينها، وكى لا يتسبب تباعدها عن بعضها فى ضرب جهود التنمية الاقتصادية فى مقتل.
***
حقا، ما أشد تمايز الأدوار والوظائف التى يجب أن تقع على عاتق «الدولة التنموية» فى الاقتصاد المصرى؛ غير أن ما يجمع بينها على الرغم من هذا التمايز، أنها تعنى أن أدوار الدولة المصرية لا يجوز أن تتمحور فقط حول أهداف تثبيت بعض المؤشرات الاقتصادية الكلية (كمؤشر نسبة العجز للناتج، ومؤشر معدل التضخم السنوى، ومؤشر الاحتياطيات الدولية... إلخ)، وفق متطلبات برامج التثبيت الاقتصادى. ثم ما إن تنجح، مؤقتا، فى تثبيتها، تنفض يدها من الأدوار التى تديم النمو الاقتصادى. فدور الدولة إذن يجب ألا يهتم بالزبد، لأن الزبد سيذهب جفاء. أما ما ينفع التنمية الاقتصادية المستدامة والمستقلة، فهو فقط الذى سيمكث فى أرض مصر الطيبة!