نشر مركز المستقبل مقالا للكاتب محمد سينان سيخ.. نعرض منه ما يلى.
نجحت سنغافورة فى إدارة أزمة انتشار وباء كورونا بصورة فاعلة، وهو ما يرجع إلى قيامها بتبنى إجراءات صارمة منذ اللحظة الأولى لاندلاع الأزمة، ورفع مستوى خطورة أزمة كورونا، فضلا عن فرض عقوبات صارمة بحق المخالفين للإجراءات والتدابير الحكومية لمواجهة الوباء، بالإضافة إلى التواصل السياسى المباشر مع الجماهير لتهدئة مخاوفهم ووضع خارطة طريق للخروج من الأزمة، فضلا عن محاولة علاج الآثار النفسية للأزمة.
شغلت جائحة «كوفيد ــ 19» العالم، نظرا لتسببها فى إصابة أكثر من 308 ألف حالة، ووفاة ما يقرب من 13 ألف شخص فى غضون أربعة أشهر. وبينما تكافح دول العالم لمواجهة تفشى الوباء، نجحت سنغافورة، مع عدد قليل من الدول الأخرى، فى احتواء الوباء، والحد من تداعياته الكارثية، وهو ما مثّل نموذجا يمكن أن تحتذى به دول العالم الأخرى.
وتجدر الإشارة فى البداية أن أحد الأسباب المفسرة لنجاح سنغافورة فى التعامل بسرعة ونجاح مع وباء كورونا يرجع إلى وجود تاريخ طويل لسنغافورة فى التعامل مع الأوبئة، حيث انتقل مرض السارس إليها قادما من الصين فى أوائل هذا القرن، وأثر سلبا على حياة الكثيرين داخل البلاد. ومن الواضح أن سنغافورة استفادت من خبرتها السابقة، وهو الأمر الذى انعكس فى نجاحها فى استخلاص الدروس، وتطوير آليات ناجحة فى التعامل مع الوباء الحالى.
وبدأت سنغافورة لحظة اندلاع هذا الوباء منذ عقدين تقريبا، فى التخطيط للتعامل مع الأزمات المشابهة ومخزونات الطوارئ بجدية شديدة. وفى هذا الإطار تعاملت سنغافورة منذ اللحظة الأولى مع أزمة كورونا بصرامة واتخذت خطوات سريعة وواضحة ووضعت قواعد محكمة لمواجهة الفيروس الجديد.
أبعاد نجاح التجربة
تتمثل الأسباب التى ساعدت سنغافورة فى مواجهة وباء كورونا بفاعلية فى العوامل التالية:
أولا تبنى إجراءات صارمة منذ اللحظة الأولى منذ الإعلان عن المرض فى الصين، وقبل انتشاره خارج مدينة ووهان. وتمثلت الخطوة الأولى التى بدأتها سنغافورة لمنع هذه انتشار الوباء إلى داخل البلاد فى إجراء فحوص فورية على المسافرين القادمين من منطقة ووهان، منشأ الفيروس، وخلال أيام وسّعت سنغافورة دائرة الفحص لتشمل القادمين من الصين كلها.
وتبنت سنغافورة هذا الإجراء على الرغم من صعوبته، نظرا لأن السياح الصينيين يشكلون حوالى 20٪ من إجمالى عدد زائرى البلاد، فضلا عن لعب رجال الأعمال الصينيين دورا محوريا فى اقتصاد الدولة، ناهيك عن كون هذا الإجراء آثار غضب الصين.
ولم تبال سنغافورة بهذه الاعتبارات، فقد فرضت بدءا من 1 فبراير حظرا على جميع الوافدين من الصين، فضلا عن توسيع نطاق هذا الحظر ليشمل فى أوائل مارس مواطنى الدول، التى تحولت إلى بؤر جديدة لتفشى المرض، وتحديدا كوريا الجنوبية وإيران وإيطاليا.
وعلاوة على ذلك، جاءت ضمن الإجراءات التى نفذتها سنغافورة التتبع الدقيق لمسار كل شخص التقى بأشخاص يُحتمل إصابتهم بالفيروس، وإصدار أوامر لأصحاب العمل بإعطاء إجازات للموظفين المشتبه فى إصابتهم، فضلا عن إعفاء العاملين من الحضور لأماكن العمل. وأخيرا فرض إجراءات الحجر الصحى المشددة فى مواجهة من تتأكد إصابتهم بالفيروس. ويتمثل ذلك فى حظر خروج الأفراد من «غرفتهم»، مع الاعتماد على توصيل الطعام إلى أبواب منازلهم.
ثانيا رفع مستوى خطورة أزمة كورونا للمستوى البرتقالى: قامت سنغافورة منذ اللحظة الأولى لتفشى مرض كورونا فى الصين برفع مستوى التهديد لديها إلى المستوى البرتقالى، وهو المستوى الذى يسبق مباشرة أعلى مستويات الخطر، ألا وهو المستوى الأحمر. وجاء ذلك فى مرحلة مبكرة. وشكك حينها المراقبون فى إجراءات احتواء الأزمة، نظرا لاعتقادهم بأنها إجراءات مبالغ فيها، كما أنها تسببت فى حالة ذعر غير مبررة للسكان بعد رفع مستوى الخطورة لهذا الحد.
ومع ذلك، أثبت الوضع الذى يشهده العالم الآن بُعد نظر القيادة بسنغافورة، ففى دول مثل إيطاليا وإيران، أصاب الفيروس المواطنين على مستويات واسعة، ولم ينج منه حتى البرلمانيين. وقد أربك هذا الوضع أنظمة الرعاية الصحية، وأثر تأثيرا سلبيا لا يمكن وصفه من الناحية الجسدية والعقلية والمالية على الملايين الواقعين تحت العزل الآن.
ثالثا فرض قواعد «حاسمة» مع المواطنين وغير المواطنين: لجأت الحكومة لتطبيق قواعد صارمة ما بين الترهيب والترغيب لإحكام إدارتها للأزمة، وفرضت عقوبات أشد على العمالة الوافدة مقارنة بالمواطنين، وذلك على النحو التالى:
أــ المواطنون: قامت الحكومة بتقديم 100 دولار يوميا لمن يُتطلب منهم البقاء فى الحجر الصحى المشدد، بينما فرضت فى الوقت نفسه غرامات تصل إلى 10 آلاف دولار سنغافورى على من يخالف قواعد الحجر الصحى.
بــ السكان غير المحليين: قامت سنغافورة بفرض عقوبات أشد، إذا ما خالفوا قواعد الحجر الصحى، مثل الوقف الفورى عن العمل، والترحيل، والحظر الدائم من العمل فى سنغافورة. ولتعزيز هذه العقوبات، منعت الحكومة مواطنيها ممن يعيّنون العمال الأجانب الذين طالهم العقاب (والذين قد يتحولون لعمالة رخيصة) من توظيف الأجانب لمدة عامين على الأقل، مما يمنحهم حافزا أقوى لتطبيق هذه الإجراءات، حتى لا تضرر أعمالهم.
رابعا تطبيق استراتيجية تواصل سياسى سريعة وفعّالة اعتمدت على التالى:
أــ نشر أخبار متوازنة: نشرت وسائل الإعلام السنغافورية أخبارا إيجابية عن شفاء بعض الحالات، وعن نجاح جهود الحكومة فى احتواء الفيروس، بينما قامت فى المقابل بنشر أخبار عن الأفراد الذين يتعرضون للعقاب جراء اختراقهم للإجراءات المفروضة.
بــ تبنى خطاب سياسى مركز وصريح: وجّه رئيس الوزراء السنغافورى «لى هسين لونغ» خطابين هامين يطمئن فيهما الشعب فى خلال أيام قليلة من اندلاع الأزمة، وكانت مدة كل منهما حوالى 10 دقائق.
جــ تقديم خارطة طريق واضحة المعالم: عرض رئيس الوزراء فى خطابه خارطة طريق واضحة للمستقبل القريب فى ظل الأزمة، واتسم خطابه بالواقعية، حيث أكد على توقعه بوقوع المزيد من الخسائر الاقتصادية. وفى المقابل تم تحديد الإجراءات الاقتصادية التى تتخذها الدولة لمواجهة التداعيات، وتم توضيح الاستراتيجيات التى تتبعها الحكومة لتوفير الأغذية، وآليات إدارة الأمن الغذائى بالاعتماد على أكثر من 100 دولة. وكانت هذه المسألة الأخيرة تحديدا تهم السنغافوريين، حيث ثارت مخاوف لدى السكان من اندلاع أزمة غذاء بسبب كورونا.
خامسا تخفيف التداعيات النفسية المرتبطة بالأزمة: إلى جانب الإجراءات الطبية واللوجستية لاحتواء الفيروس، وحزمة الإجراءات الاقتصادية لتخفيف آثاره، اهتمت سنغافورة بالأبعاد النفسية المرتبطة بانتشار الوباء والانعزال بالمنزل ومنها إلزام المدرسين بالتواصل مع الطلاب بصورة دورية، خاصة الذين خضعوا للعزل.
ومن جهة ثانية، قام عدد من خدمات المجتمع المحلى بتقديم استشارات نفسية مجانية بصورة مباشرة أو من خلال الانترنت للمساعدة فى تقليل حدة التوتر والخوف المرتبطة بإجراءات الحجر الصحى، أو شعور الهلع الذى انتاب بعض الأفراد خشية الإصابة بالمرض.
دروس من واقع التجربة السنغافورية
من واقع التجربة الحالية، يبدو أن الدول التى تعرضت لأزمة تفشى الأوبئة، أكثر قدرة على اتخاذ خطوات سريعة تجاه الأزمة وفق خبرتها السابقة، ويبدو أن ثمة سياسات وإجراءات ضرورية، بعضها طبق بالفعل فى بعض الدول، وبعضها تم تطبيقه، وإن بصورة متأخرة، ومن أهمها:
استخدام أدوات الرقابة الأمنية فى فرض إجراءات «تتبع التواصل»، وتطبيق الحجر الصحى المشددين: تتمثل أحد الأساليب الفعالة فى إلزام أفراد المجتمع بالانصياع للتدابير الحكومية فى تحديد عقوبات قاسية قابلة للتنفيذ بحق المخالفين، منها الغرامات والحبس، وقد تصل إلى الترحيل. وحتى لو لم تُنفذ تلك العقوبات فعليا، فإن التهديد بها فى حد ذاته سيحفز المواطنين على الالتزام بها درءا للمخاطر.
حماية مخزون السلع الأساسية، والأدوية الاستراتيجية: ينبغى أن تقوم الدول فى مثل هذه الأزمات بتوفير المواد الغذائية، والأدوات الطبية الأساسية، من خلال وضع قيود على تداول مواد مثل الأرز والحبوب والأدوية وغيرها. وبالتوازى مع ذلك، منع احتمالات ظهور «سوق سوداء» ممن يحاولون التربح من وراء الذعر المنتشر لدى الأفراد فى تلك المواقف، وذلك من خلال فرض عقوبات قاسية بحق من يحاول مخالفة هذه القواعد.
التواصل المستمر مع مواطنى الدولة: يتمثل التواصل مع السكان من أهم الخطوات التى يجب على الدول تبنيها فى إدارة هذه النوعية من الأزمات، خاصة وأنها تتطلب من الأفراد الالتزام بسلوكيات معينة من أجل الحد من تفاقم الأزمة.
دعم الفئات الأكثر تضررا: تتطلب مواجهة هذه النوعية من الأزمات تعويض المواطنين الذين تضرروا ماليا جراء البقاء فى المنزل، وأصحاب الأعمال التجارية الذين خسروا مبالغ طائلة جراء تفشى الوباء.
وضع خطط «ما بعد الأزمة» الآن: من الجدير بالذكر أن الأزمة لا تنتهى بانتهاء الفيروس، فمن المهم أيضا أن تضع الحكومات خططا للتعافى فى مرحلة ما بعد الأزمة، فالصين مثلا أعلنت بالفعل عن خطط تقدر بقيمة ترليون دولار لإنعاش اقتصادها. وتعادل أهمية هذا الإجراء أهمية التعامل الفعلى مع الوباء نفسه، حيث يتعين على الحكومات تبنى سياسات واضحة لتحفيز النمو الاقتصادى فور توقف تفشى الوباء.