أدركت، وأنا أنتظر إعلان نتيجة الانتخابات الرئاسية يوم الأحد، إلى أى درجة أريد فوز الدكتور محمد مرسى. ليس لأنه مرشحى المفضل، ولا لأنى كنت أتمناه رئيسا لمصر الثورة، لكن لكرهى الشديد لاحتمال فوز الفريق أحمد شفيق، وجزعى منه. وأعتقد أن الثمانية ملايين ناخب الذين أضافوا أصواتهم إلى حصة الدكتور مرسى فى الدورة الثانية من الانتخابات كانوا ينتظرون النتيجة بنفس الشعور.
والآن، وقد فاز، يحق لنا ويجب علينا أن نراقبه، وأن نحاسبه. فهو قد دخل فى اتفاقات صريحة مع بعض القوى الوطنية، حول تكوين وزارته الأولى، وحول انتماءات نوابه، وحتى بدون هذا، هو بلا شك قارئ للمشهد الآن، ومتعلم من أخطاء قيادات جماعته منذ بدء الثورة وإلى اليوم، ومدرك تماما الأهمية القصوى لمواجهة ما هو آت بتحالف عريض للقوى الثورية.
فهناك شىء آت. وإن اهتدينا بسِجِّل وسوابق من أداروا شئون بلادنا فى الستة عشر شهرا الماضية وجدناها تشير إلى أحداث عنف تُفتَعل فى ظروف تُسَهِّل اشتعالها ودفعها نحو فتنة ما، عقابا لجزء من الشعب، وتفريقا لأبناء الوطن الواحد وتقليبهم على بعض: كنيسة إمبابة وماسبيرو للوقيعة بين المسيحيين والمسلمين، مجلس الشعب للوقيعة بين الشعب والجيش، بورسعيد للوقيعة بين الألتراس وبعضهم وبين بورسعيد وبقية مصر. بعض هذه الفتن نجح، وبعضها لم ينجح فى هدفه العريض لكنه ترك شهداء ومصابين وآثارا جسيمة. هل آن أوان معاقبة الإخوان ومعاقبة الناخب الذى أتى بمدنى إخوانى إلى كرسى الرئاسة؟
رأينا، فى الأسابيع الماضية، تصعيد الممارسات القديمة للنظام، من استعمال المال والنفوذ والإعلام المدجن، بل والعميل، للتأثير فى الناخبين، ونشر الإشاعات لترويع الشعب. وظهر فى الآونة الأخيرة، إلى جانب التحرش الممنهج والعنيف بالنساء، ظهر ملتحون يُسَخِّفون عليهن بجمل محفوظة مثل «بكرة مرسى هيلمكم»! أضف إلى كل هذا استصدار المجلس العسكرى للقوانين واستكتابه للإعلانات الدستورية التى تُجَمِّع الصلاحيات فى يده. يقولون مرحلة انتقالية، ونسأل تنتقل بنا إلى فين بالظبط؟
ولعل هروب الفريق أحمد شفيق من مصر فجر الاثنين، يكون بمثابة مُنَبِّه يوقظ السبعة ملايين الذين أعطوه صوتهم فى ١٦ و١٧ يونيو إلى أنه لم يكن سوى وجه وأداة للنظام، وأن أمانهم الحقيقى لن يكون إلا وسط إخوانهم من عموم شعب مصر.
لا أتصور أن الدكتور مرسى وقيادات الإخوان والعدالة والحرية سيقرأون فوزه بأنه انتصار لهم؛ فرسالة الشارع واضحة: ٨ ملايين قالوا له ننتخبك درءا لشر كبير، و٧ ملايين قالوا بل نراكم أنتم الخطر الأكبر وسنهرب منكم إلى مرشح لم نكن من ٣ أسابيع فقط نريده. أما بعد إعلان النتائج فكانت هتافات التحارير فى مصر كلها هى هتافات الثورة: «ارفع راسك فوق، إنت مصرى» و«المرة دى بجد، مش هنسيبها لحد» و«يا نجيب حقهم، يا نموت زيهم»، و«يسقط يسقط حكم العسكر» والأخيرة هتف بها أيضا من زج بهم فى تأييد شفيق! والواقع أن الكثيرين فى تحرير القاهرة انصرفوا عن خطاب الرئيس الجديد ليكونوا مع الألتراس فى شارع محمد محمود.
الشارع يتعامل مع نتيجة الانتخابات على انها انتصار للثورة على أعدائها، وليس على أنه فوز لجماعة أو لحزب،. وهذه، كالعادة، حصافة وبعد نظر من الشعب، فالشعب سباق وعلى من يريدون تمثيله والحديث باسمه أن يلحقوا به. الشعب يقف فى محمد محمود وينادى بالثورة؛ هدية وهداية للدكتور مرسى من شعب واعٍ، يعرف أن مسيرة الثورة لن تستمر إلا بتوحيد صفوف القوى الوطنية، والارتفاع عن الحزبية والتعصب والمصالح الضيقة. الشعب يقف منذ ٢٥ يناير ٢٠١١ على أول طريق الثورة، يُبَيِّن الطريق لممثله، مدير أعماله، الرئيس المنتخب الجديد، أن تعال هنا، هذا طريق ولائك وطريق توجهك، وابدأ فى العمل، فأنت رغم الإعلان الدستورى المكمل لك صلاحيات واسعة تسع ما نحتاجه اليوم.
ويعبر الألتراس كالمعتاد عن توجه وآمال الشعب حين يصرحون بأنهم لا يمتلكون خبرة السياسيين والحركات والمنظمات للدخول فى الحياة السياسية، «لكننا نمتلك الروح لتحقيق الهدف وثقافة إنكار الذات»، وحين يتوجهون لجميع القوى السياسية والشعبية: «اتحدوا يرحمكم الله لإنجاح الثورة، ابتعدوا عن الشهرة فهى زائلة والمصالح باهتة، فالهدف هو الثورة والطريق هو الاتحاد لإنجاحها».
يقول الكثيرون إنه لم يكن ليُسمح للدكتور مرسى بالفوز بالرئاسة لو لم يكن قد عقد صفقة ما مع المجلس العسكرى، وهذا يفترض أن المجلس قادر على كل شىء وممسك بمفاتيح جميع المواقف والتفاصيل، وهو ما ليس بصحيح. لكن المؤكد ان المجلس لم يكن حتى بحاجة لأن يعقد صفقة مع الفريق شفيق. وإن كانت هناك صفقة ما مع الدكتور مرسى، فهى سرعان ما ستنكشف. فطريق الرئيس الجديد واضح إن كان ينوى فعلا أن يكون رئيسا لكل المصريين. صحيح أن العمل على وضع البلاد على طريق أهداف الثورة العظمى العيش (تحسين الأحوال الاقتصادية)، والحرية (تكريس ونشر مبادئ حقوق الإنسان)، والعدالة الاجتماعية (ضبط وتطوير منظومتى التعليم والصحة، وتغيير علاقات القوة فى المجتمع) كلها تحتاج إلى تخطيط وتمويل ومؤسسات وتنظيم ولذا فمن المقبول أن تمر أسابيع مثلا قبل أن نرى أن العمل عليها قد بدأ، لكن هناك إجراءات باستطاعة الرئيس أن ينجزها فى أيام، وهى إجراءات من شأنها أن توضح بما لا يدع مجالا للشك موقفه من الثورة ومن الشعب، وهى أيضا الإجراءات التى هى السبيل العملى إلى توحيد الصفوف.
من هذه الإجراءات الإفراج السريع عن المحاكمين عسكريا بما فى ذلك ضباط ٨ أبريل إما بالعفو أو بإلغاء الأحكام الصادرة ضدهم، أو فى حالة المدنيين بإعادة المحاكمة أمام قاضيهم الطبيعى، ورد الاعتبار لمن حُكِم عليهم مع وقف التنفيذ فصارت لهم صحيفة جنائية، والإفراج عن كافة المسجونين السياسيين. ومن هذه الإجراءات أن ينزل إلى المصريين المسيحيين، فى العلن، فى الكنائس والشوارع، للناس وليس فقط للقيادات، ويطمئنهم، ويعمل على سرعة صدور قانون دور العبادة الموحد. ومن هذه الإجراءات تغيير النائب العام. ومنها الإسراع فى تقديم الرعاية والدعم القانونى والصحى والمالى لمصابى الثورة وأهالى شهدائها، ولا يكون هذا من باب فعل الخير وإنما هو العرفان بجميلهم علينا وتحيننا الفرص للقيام بأقل واجب نحوهم. ومن هذه الإجراءات أيضا إطلاق سراح كل فلسطينى أو أردنى أو سورى محبوس فى مصر لاعتبارات سياسية، أو محاكمتهم محاكمات عادلة وسريعة. ومنها فتح معبر رفح لمرور الأشخاص والبضائع بالشكل المتعارف عليه بين بلدين صديقين.
كما يخطئ الرئيس خطأ جسيما إن وافق على ترك اختيار وزير الداخلية فى يد المجلس العسكرى، فالمجلس كان عنده سنة كاملة يصلح فيها الجهاز الأمنى ولم يفعل، وبدون إعادة هيكلة هذا الجهاز لن يكون هناك أمن فى مصر وستتدهور الأحوال وقد رأينا جميعا ما حدث فى شارع الجلاء يوم الأحد.
والمهم، المهم، فى كل هذا هو أن يرى الشعب أفعالا، لا أن يُطلب منه أن يستمع ثانية لكلام، فالشعب إن لمس أفعالا أمينة سيصطف حول من يؤديها والرئيس الجديد هو اليوم فى خير موضع للبدء فى الفعل. ويا رب ابعد الشر عن مصر وعن شعبها.