كان الفتى المولود عام 1933 بشبين القناطر طالبا بالصف الثانى الإعدادى عندما اندلعت حرب فلسطين عام 1948، فكتب قصيدة يقول فيها:
دماء تسيل ودمع يسيل وهذا يقوم وذاك يميل
وشعب ينادى فيأتى الرفاق يقولون جئنا نصد الدخيل
وسمعها معلمه فأشاد بها ونصحه بدراسة اللغة العربية لصقل موهبته، وكذلك فعل حين التحق بقسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة القاهرة عام قيام الثورة 1952.
وكان الفتى الذى أتقن موسيقى الشعر من كتابته للزجل فى«البعكوكة» وهو طالب بالمرحلة الثانوية ينحاز انحيازا واضحا للبسطاء، لهذا فضل حين قرر أن يستكمل مسيرته الشعرية بالفصحى أن يهجر الرومانسية إلى الواقعية، وأن يخرج عن إطار الشعر العمودى الغنائى الخالص إلى ساحة شعر التفعيلة الأنسب من وجهة نظره للقصائد الواقعية، فكتب عام 1952أول قصائده التفعيلية عن الفلاحين الكادحين، حيث يقول:
الكادحون
عادوا إلى أكواخهم عند المغيب
يتعاقبون
عادوا وفى نواظرهم ذل السنين
عادوا وبين ضلوعهم همٌّ دفين
يتتابعون
والبؤس يبدو فى اختلاجات العيون
وإذا كانت العبرة فى التأريخ لبدايات قصيدة التفعيلة بالنشر وليس بالتأليف، فإن قصيدته التفعيلية «وكما يموت الناس مات» التى كتبها عام 1952 وألقاها 1953 نشرت بمجلة الرسالة الجديدة فى أبريل 1955، وهى تظل بتاريخ نشرها ثانى قصيدة تفعيلية مصرية بعد قصيدة عبد الرحمن الشرقاوى «من أب مصرى إلى الرئيس ترومان»، وأسبق من كل ما نشر لصلاح عبد الصبور رائد شعر التفعيلة فى مصر.
وانطلق شاعرنا المجدد يتغنى بالثورة وإنجازاتها وبالوحدة العربية ويحصد الجوائز الأولى فى مهرجان الشعر بدمشق عامى1960و1961، ومن رابطة الأدب الحديث بمصر عام 1962 فى الاحتفال بالعيد العاشر للثورة، لكن هذا كله لم يشفع له فى نشر ديوانه الأول «عناق الشمس» الذى صدر عام 1966بأول تنازل يعرفه الشاعر فى حياته، حيث اشترط عليه العقاد مقرر لجنة الشعر بالمجلس الأعلى للفنون والآداب أن تكون كل قصائده من الشعر العمودى فوافق طمعا فى النشر.
ولم يمر على هذا التنازل الفنى أكثر من عام واحد لتحل هزيمة 1967وتُحطم حلم الشاعر الثورى، فيقدم تنازلا سياسيا متمثلا فى ترك الوطن الجريح والذهاب مبكرا جدا إلى دولة الإمارات للعمل مدرسا للغة العربية، وظل بها حوالى ربع قرن حتى عام 1992.
لهذا كان طبيعيا أن يسجل الشاعر عند عودته زائرا عام 1970 تعليقات الأصدقاء التى أنكرت شاعرا كبيرا ترك الساحة الأدبية الأكبر فى الوطن العربى لسنوات طويلة، ثم عاد ليتحسس موقعه فيها، حيث يقول على لسانهم:
«فهذا الذى عرفناه بالأمس مات»
«وهذا الذى لم يزل ماثلا ليس إلا رفات»
«ألا تبصر الموت فى نظرته؟»
«ألا تسمع الجدب فى نبرته؟»
ترى يصدقون،
فيا للأسى إن يكن قولهم فيه بعض الحقيقة!
وقد انتقل شك الشاعر فى أنه قد خسر رصيده الأدبى والاجتماعى الذى بددته الهجرة الطويلة، إلى ساحة التأنيب الصريح للذات عند تعلق الأمر بمراجعة الموقف السياسى، حيث يقول فى قصيدة «هجائيات»:
مدانٌ أنا، مثلما كلكم مدانون، ليس بريئا أحدْ
تركناك يا وطنى، وانطلقنا
وراء الدراهم، نحسب أنَّا سنجمع تبرا،
ألا ليت شعرى، ومالا لبدْ
ومر الزمان، وشيئا فشيئا
نسينا البلادا.. استحلنا جمادا
دُمَى لا تحس، نسينا الديار، تركنا البلدْ
على أن موهبة شاعرنا المجدد بطبيعته دفعته فى أواخر أيامه إلى كتابة القصائد بالغة القصر المعروفة باسم «قصيدة الومضة»، بل إنه كان من أوائل المبشرين بها أيضا كما يتضح من قصيدته «ثلاثيات: لا تخلو من الحكمة» التى كتبها عام 1980، وهى تتألف من مقاطع منفصلة يقول فى أحدها:
كسرت رمحى حينما وجدت فى هذا الوجود من يناجزون بالكلام
ما حاجتى إلى الحسام؟
وكلمةٌ واحدةٌ توردنى موارد الموت الزؤام
والحقيقة أن المنعطفات والعراقيل التى واجهت رحلة شاعرنا قد منعت موهبته التى بدأت شامخة من أن تصل إلى ما كانت جديرة بالوصول إليه، فقد كتب يقول فى بداياته عام1952:
وكما يموت الناس مات
لا لم تنح أرضٌ عليه، ولا تهاوت شامخات
لا لم تشيعه الطيور إلى القبور مولولات
وكما يموت الناس مات
رحم الله شاعرنا الرقيق عبدالمنعم عواد يوسف الذى فارقنا يوم الجمعة 17 سبتمبر 2010.